الثورة المهدية ثورة دينية سياسية انطلقت شرارتها الأولى في السودان عام 1881، بقيادة محمد أحمد الذي أعلن نفسه “المهدي المنتظر”، وأقام دعوته على دعامتين أساسيتين: “التجديد في الدين” ومقاومة الاستعمار الذي تمثل في الحكم المصري التركي وهيمنة البريطانيين على البلاد.
حققت الثورة انتصارات حاسمة، أسفرت عن قيام دولة مستقلة في عام 1885 شملت معظم أراضي السودان، واستمرت لحوالي عقدين، ولكن الأزمات الاقتصادية والصراعات الداخلية هيأت الطريق لغزو إنجليزي مصري اجتاح البلاد وأدى إلى انهيار الدولة عام 1898.
الظروف التاريخية للثورة المهدية
نجح محمد علي باشا في ضم السودان إلى مصر عام 1821، منذ ذلك الحين خضع السودان للإدارة التركية المصرية، التي اعتمدت نظام حكم مركزي يفضل مصالح الحكومة في القاهرة على حساب الشعب السوداني، وقد تميز هذا النظام بالقسوة وفقدان الاهتمام بالمجتمع المحلي، حيث ركز الولاة على استغلال ثروات البلاد، دون أن يسهم ذلك في تحسين ظروف الحياة للسودانيين، بالإضافة إلى فرضهم ضرائب مرهقة على الفلاحين والرعاة، مما أدى إلى تراجع الزراعة وانتشار الفقر في الأرياف، واستخدام نظام السخرة في الخدمات العامة، كما شهد عام 1877 توقيع مصر اتفاقية تجارة الرقيق الأنجلو مصرية، التي نصت على إنهاء بيع وشراء العبيد في السودان، رغم أن جزءًا كبيرًا من الاقتصاد السوداني كان لا يزال قائمًا على هذه التجارة، مما أدى إلى أزمة اقتصادية وأثار سخط بعض فئات المجتمع، خصوصاً التجار والأغنياء، وتجاهل الإدارة الحاكمة الخصوصية الاجتماعية والثقافية للسودان، مما خلق أجواءً من الاستياء داخل المجتمع، حاول بعض زعماء القبائل التمرد على النظام الحاكم، لكنه لم يكن لديهم القوة لإسقاطه، فواجه بعضهم أحكام بالإعدام، بينما فر آخرون هربًا من العقاب، وأسهمت هذه الظروف في تهيئة البلاد لاندلاع ثورة شاملة.
ظهور الدعوة المهدية
في تلك الحقبة شهد السودان انتشاراً واسعاً للطرق الصوفية، حيث وجد الناس في هذه الطرق ملاذًا من ضغط القهر السياسي وتدهور الأوضاع الاقتصادية، فازدهرت مدارس القادرية والتيجانية والختمية وغيرها، وبروز محمد أحمد بن عبد الله المعروف بتدينه وعلمه الغزير، إذ كان حافظًا للقرآن، عميقًا في الفقه والحديث، ومتأثرًا بالطرق الصوفية، وبعد وفاة شيخه القرشي عام 1880، تولى محمد أحمد المشيخة، وكان معروفًا بزهد وورع وانتقاده لفساد الحكم التركي المصري، مما أكسبه مكانة مرموقة في المجتمع، وتحلق حوله عدد كبير من المريدين، وبدأ يؤكد لمقربيه أنه “المهدي المنتظر” الذي بشر به رسول الله لإقامة العدل ونشر الحق، بناءً على رؤيا، ثم تلت ذلك دعوة سرية توسعت تدريجياً، وفي 1881 أعلن دعوته الشهيرة باسم المهدية في جزيرة “أبا” جنوبي الخرطوم، حيث أعلن أنه المهدي المنتظر، كما أرسل إلى محمد رؤوف باشا كتابًا يدعوه فيه إلى اتباعه، وكان هذا الإعلان تحولاً جذرياً في حياة “المهدي”، إذ انتقل من شيخ صوفي إلى قائد ديني سياسي، وقد ساهمت شخصيته الفريدة في تعزيز هذه الحركة، فكانت رمزية لقوة تغيير واسعة لاقت قبولًا كبيرة في المجتمع السوداني، ومهدت الطريق لإنشاء دولة تقوم على الفكر الديني الإصلاحي.
شرارة الثورة الأولى
لم تكترث الإدارة التركية المصرية للدعوة المهدية في البداية، واعتبرتها شطحات صوفية، ومع ذلك، حاولوا احتواء الأمر، فأرسل رؤوف وفداً إلى جزيرة “أبا” لإقناع “المهدي” بالتوقف، إلا أن “المهدي” رفض، فأرسل رؤوف في أغسطس/آب 1881 قوة تضم 650 جندياً مزودين بمدفعين، وعند وصول الجنود هاجمهم “المهدي” و250 من أتباعه مسلحين بالسيوف والرماح، ولم يتمكن الجنود من استخدام المدفعية، مما أدى إلى هزيمتهم وفرارهم بعد ساعات من القتال، وكانت تلك المعركة نقطة تحول مهمة في تاريخ الدعوة، إذ مثلت الشرارة الأولى لثورتها، وانتشر خبر الانتصار في كل أنحاء البلاد، مما أبرز “المهدي” كقائد معترف به، وأدرك “المهدي” أن حكومة الخرطوم ستجدد هجومها عليه، فخرج مع أتباعه الذين أطلق عليهم “الأنصار”، متوجهين إلى جبل قدير في جبال النوبة بكردفان، تبعهم محمد سعيد باشا بجيش قوامه حوالي 1500 جندي، لكنه واجه حمايتهم عندما حاول دخول منطقة تقلي، وبتزايد التأييد من السكان، استطاع “المهدي” وفريقه الوصول إلى جبل قدير، حيث احتفلوا بالنصر ضد حملة موجهة ضدهم.
انتشار الثورة في عموم البلاد
ازداد قلق الإدارة في الخرطوم مع نمو الثورة المهدية، فجهز حاكم السودان بالنيابة، جقلر باشا، حملة تضم حوالي 3500 جندي، مع 3 مدافع، بقيادة يوسف الشلالي، وتوجهت الحملة إلى جبل قدير، حيث اشتبك “المهدي” معهم في مايو/أيار 1882، وأسفر القتال عن انتصار ساحق لـ”المهدي”، حيث قُتل الشلالي وأغلب جيشه، وكانت لهذه الانتصارات تأثيرات كبيرة في تعزيز الدعوة المهدية، كما زادت من عدد المنضمين إليها، وتوسعت الثورة لتشمل مناطق دارفور وكردفان وأرجاء مختلفة من النيل، وتحولت إلى حراك شعبي شامل عبر البلاد، وفي سبتمبر من نفس العام هُزمت الثورة العرابية في مصر واحتل الإنجليز البلاد، وبدلاً من ذلك، انتقلت الثورة المهدية من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم، وفي الشهر نفسه، شن “المهدي” وأنصاره هجومًا شاملاً على مدينة الأُبَيِّض، ووصل عدد جيشه إلى 50 ألف مقاتل، لكن المدينة صمدت، وقتل حوالي 20 ألف من “الأنصار”، إلا أن “المهدي” استمر في حصار الأُبَيِّض وبارا، وأسس قوة ضاربة من الجنود السابقين في الجيش التركي، بعد أن انضموا إليه وأصبحوا يعرفون بـ”الجهادية”. في يناير/كانون الثاني 1883، تمكن “المهدي” من إخضاع مدينة بارا ثم الأُبَيِّض، مما جعل كردفان بالكامل تحت سيطرته.
قيام الدولة المهدية
في مارس/آذار 1884، هاجمت قوات المهدي مدينة الخرطوم، عاصمة الحكم الأنجلو مصري، وقطعت الطرق المؤدية إليها لمنع وصول الإمدادات، من خلال محاصرتها، اجتذب “المهدي” القبائل المحيطة للانخراط في الثورة، واستمر الحصار لعدة أشهر تحت قيادة غوردون، على الرغم من التحصينات القوية للمدينة، إلا أن شح المواد الغذائية وغلاء الأسعار شجع الكثير من السكان على الانضمام إلى الثورة، وفي فجر 26 يناير/كانون الثاني 1885، هاجمت قوات “المهدي” المدينة، ونجحت في اقتحامها، مما شكل نهاية الحكم القائم، على الرغم من محاولات القاهرة إرسال قوات لدعم غوردون، إلا أنها لم تكن كافية، حيث قُتل غوردون في المعركة، في العام نفسه، أصبح شمال السودان جزءًا من الدولة المهدية بعد انسحاب القوات البريطانية والمصرية من دنقلا، وسقطت كسلا وسنار، وتم إلغاء جميع الحاميات المصرية المتبقية، باستثناء سواكن ووادي حلفا، بسط “المهدي” سلطته على البلاد، وأسس مدينة أم درمان كعاصمة، وأنشأ مؤسسات الحكم ومراكز دينية، وصك عملة خاصة بالبلاد، وقد أسس “المهدي” دولته على أسس دينية، وتولى بيده السلطتين السياسية والروحية، وإنشاء نظام قضائي يعتمد على الشريعة الإسلامية، واستبدل الضرائب بفرض الزكاة.
ضعف الدولة المهدية: الأسباب الداخلية
واجهت الدولة تحديات قاسية بدأت فور تأسيسها، فلم يمضِ وقت طويل على تأسيسها حتى توفي مؤسسها “المهدي” في 22 يونيو/حزيران 1885، واختيار عبد الله التعايشي خليفة له، رغم غياب المؤهلات العلمية، إلا أن التعايشي أثبت قدرته على إدارة شئون الدولة، مما حدا بـ”المهدي” لتفويضه صلاحيات واسعة، ومع وفاة “المهدي”، ظهر النزاع بين القبائل، حيث اعترضت قبائل الوسط النهري على تعيين التعايشي، واعتبروا محمد شريف أحق بالخلافة، وأدت هذه الخلافات إلى نشوب صراعات تسبب في حالة عدم استقرار داخل الدولة، كما اندلعت حركات تمرد في الغرب، مع مقاومة قبائل الرزيقات والكبابيش وجهينة الغرب والفور، ورغم إخماد هذه التمردات، إلا أن النزعة الانفصالية في دارفور استمرت، وتعقّدت الأمور بعد أن أرسل الخليفة دمج عشيرته في أم درمان لتعزيز حكمه، مما زاد من الاستياء بين القبائل الأخرى، وأعلنت قبيلة الأشراف العصيان عام 1891، ولكن الخليفة تفاوض معهم، ثم خان الاتفاق وأعدم قادتهم، وفي عام 1897، تصاعد النزاع مع قبيلة الجعليين، ورفضوا أوامره بإخلاء مدينة المتمة، مما أدى إلى مذبحة كبيرة، وكانت الظروف الاقتصادية المتدهورة عاملًا رئيسيًا في تقويض الدولة، فنتيجة سنوات من الحروب والتهميش، تأثرت الزراعة والتجارة بشكل ملحوظ، كما تعرض السودان لسنوات من الجفاف بين 1888 و1890، مما أدى إلى ضعف الإنتاج الزراعي وظهور المجاعات والأوبئة.
المطامع الأجنبية وسقوط الدولة المهدية
إلى جانب التحديات الداخلية، أسفر الصراع مع بعض دول الجوار عن اشتباكات مستمرة، حيث أُرسل الخليفة جيشًا لدعم القوات على الحدود مع إثيوبيا عام 1889، وأُجبر على مواجهة تمرد داخلي قبل أن يستهدف الجيش الإثيوبي، وفي العام التالي، عبر الجيش الإثيوبي إلى السودان، لكن جيش المهدية تمكن من صد هجومهم، رغم استقرار الأمور داخليًا بصورة نسبية بعد العام 1892، إلا أن الخطر الأجنبي كان متزايدًا، حيث استولى الإيطاليون على كسلا عام 1894، وامتدت القوات البلجيكية باتجاه السودان، وفي الشمال، كانت القوات المصرية تتهيأ للعودة تحت قيادة البريطانيين، وفي عام 1889، واجهت حملة سورية هزيمة كبيرة في معركة توشكى، وفي 1896، استولى الجيش المصري، الذي تشكّل به، على دنقلا ثم أبوحمد وبربر وعطبرة، مما اضطر جيش الدولة المهدية إلى الانسحاب نحو الجنوب، وفي 2 سبتمبر/أيلول 1898، وقعت معركة كرري، حيث قاتل جيش المهدي البالغ 60 ألف مقاتل بشجاعة، لكن تكتيكات الجنرال البريطاني هربرت كتشنر، الذي استخدم المدافع الرشاشة، جعلت المعركة حاسمة لصالح القوات البريطانية المصرية، حيث فقد جيش المهدي أكثر من 11 ألف جندي، وتمكن كتشنر من احتلال أم درمان الرئيسية، وفي 4 سبتمبر، احتل الخرطوم، وتبع ذلك مطاردة بقايا جيش الثورة المهدية، حتى وفاة الخليفة في معركة أم دويكرات في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 1899، مما أسفر عن سقوط الدولة المهدية وخضوع السودان مرة أخرى لحكم البريطانيين المصريين.
