صدر الصورة، EPA
قبل 5 ساعة
واصل البابا لاون الرابع عشر، بابا الكنيسة الكاثوليكية، زيارته الرسمية إلى لبنان في يومها الثاني، بعد محطته الأولى في تركيا.
وشهدت الزيارة سلسلة من المحطات الروحية والحوارات الدينية والثقافية، وترأس البابا صلاة خاصة في مزار القديس شربل في عنّايا، قبل أن يزور سيدة لبنان في حريصا.
كما شمل جدول الزيارة مشاركة البابا في حوار بين الأديان يُعقد في ساحة الشهداء وسط بيروت، إضافة إلى لقاء مفتوح مع الشباب في ساحة الصرح البطريركي الماروني في بكركي.
ومنذ وصوله إلى بيروت في زيارة بعنوان “طوبى لفاعلي السلام”، كرر البابا لاون الرابع عشر تضرعه من أجل تحقيق السلام، ودعا المسؤولين إلى أن يضعوا أنفسهم في “خدمة” شعبهم الذي استنزفته النزاعات والهجرة.
كما دعا بابا الفاتيكان رؤساء الطوائف المسيحية والمسلمة اللبنانيين إلى “بناء السلام، ومواجهة عدم التسامح، والتغلب على العنف ورفض الاقصاء في البلد”، ودعا اللبنانيين إلى “المضي قُدماً على طريق السلام”، مؤكداً “أهمية المصالحة من أجل مستقبل مشترك”.
ووصل رأس الكنيسة الكاثوليكية إلى بيروت، عصر الأحد، في أول رحلة خارجية منذ انتخابه في مايو/أيار، قال إنه أراد من خلالها أن يكون “رسول سلام” إلى المنطقة التي مزقتها الانقسامات والنزاعات.
لقاء مسكوني بين الأديان
حضر بابا الفاتيكان، الاثنين، لقاء مسكونياً وحوارياً بين الأديان في وسط العاصمة اللبنانية بيروت، شارك فيه ممثلون عن غالبية الطوائف الدينية في البلاد، مجدداً رسائله المؤيدة للوحدة واحترام التنوع الديني.
ودعا البابا رؤساء الطوائف المسيحية والمسلمة في لبنان إلى رفض العنف والاقصاء في البلد الصغير الذي يقوم نظامه السياسي على محاصصة طائفية وتمزقه الانقسامات السياسية، بحسب وكالة فرانس برس للأنباء.
وفي كلمة ألقاها أمام رؤساء الطوائف المسيحية والمسلمة في لقاء مسكوني وحواري بين الأديان، عُقد في وسط بيروت، قال البابا للحاضرين: “أنتم مدعوون إلى أن تكونوا بناة سلام، وأن تواجهوا عدم التسامح، وتتغلبوا على العنف وترفضوا الإقصاء وتنيروا الطريق نحو العدل والوئام للجميع بشهادة إيمانكم”.
وقال البابا: “في زمن يبدو فيه العيش معاً حلماً بعيد المنال، يبقى شعب لبنان، بدياناته المختلفة، مذكراً بقوة بأن الخوف، وانعدام الثقة والأحكام المسبقة ليست لها الكلمة الأخيرة، وأن الوحدة والشّركة، والمصالحة والسلام أمر ممكن”.
وأضاف: “إنها رسالة لم تتغير عبر تاريخ هذه الأرض الحبيبة: الشهادة للحقيقة الدائمة بأن المسيحيين والمسلمين والدروز وغيرهم كثيرين، يمكنهم أن يعيشوا معاً ويبنواً معاً وطناً يتحد بالاحترام والحوار”.
وتتعايش في لبنان 18 طائفة، رغم حرب أهلية (1975-1990) أودت بحياة عشرات الآلاف من اللبنانيين، وكانت إلى حد بعيد، في بعض مراحلها حرباً بين مسلمين ومسيحيين.
ويختتم بابا الفاتيكان يومه بلقاء حاشد مع الشباب في مقر البطريركية المارونية في بكركي، في شمال بيروت، حيث سجّل أكثر من عشرة آلاف شخص تتراوح أعمارهم بين 16 و35 سنة، أسماءهم للحضور وفق المنظمين، من بينهم ما يزيد على 500 شاب وشابة يأتون من الخارج.
“رمز الصمود الروحي”
توجه البابا لاون الرابع عشر، الاثنين، إلى مرتفعات عنّايا، في زيارة روحية لضريح القديس شربل مخلوف، “رمز الرجاء والصمود الروحي الذي يوحّد قلوب اللبنانيين من جميع الطوائف”، بحسب ما ذكره موقع الفاتيكان.
ولخّص الحبر الأعظم، أمام حشود المؤمنين، إرث القديس شربل في أربع ركائز، مؤكداً على أهميتها بوصفها “سلوكيات مناهضة للتيار” و”ضرورية كالماء العذب في الصحراء”.
وفي كلمة ألقاها باللغة الفرنسية قرب ضريح القديس شربل في بلدة عنّايا الجبلية، الواقعة على بعد 54 كيلومترا شمال بيروت، والذي يشكل محجاً لمسيحيين ومسلمين في لبنان، طلب البابا لاون الرابع عشر “الشركة والوحدة من أجل الكنيسة” و”السلام من أجل العالم”.
وقال: “نطلب السلام بصورة خاصة من أجل لبنان وكل المشرق”.
ومنذ ساعات الصباح الباكر، تجمع الآلاف من اللبنانيين على طول الطريق المتعرّج المؤدي صعوداً إلى ضريح القديس شربل في دير مار مارون، واستُقبلوا البابا الذي وصل على متن سيارة “بابا موبيل”، بالهتافات والزغاريد ونثر الأرز، وفق ما شاهد مصورو وكالة فرانس برس للأنباء.
وجال البابا في أنحاء الدير الذي بُني الجزء الأول منه عام 1828، وزار المتحف الذي يضم قطعاً مختلفة عائدة للقديس شربل، في أول زيارة لرأس الكرسي الرسولي الى الدير التابع للرهبانية اللبنانية المارونية.
من جهته، وصف الرئيس العام للرهبانية اللبنانية المارونية الأب العام، هادي محفوظ، حضور البابا في هذه الزيارة التاريخية، التي تأتي بعد مئة عام من تقديم دعوى تطويب وتقديس القديس شربل مخلوف إلى الكرسي الرسولي بأنه: “نعمة جديدة” تضاف إلى “نعمة مار شربل”، مشيراً إلى أن زيارته “ستطبع إلى الأبد تاريخ هذا الدير والرهبانية”.
كما رحّب الأب محفوظ بالبابا في “ملجأ الصمت والنور”، وشكره على تشريفه للدير وعلى إرشاداته الأخيرة التي دعت إلى توسيع أفق الصلاة والحياة نحو “الأحد الذي لا يغيب”، وأكد البابا أن “المسيحية اللبنانية هي قوة حية، عميقة الجذور، وأساسية للتوازن الإقليمي كله”.
وفي دير مار مارون بمنطقة عنّايا، عاش القديس شربل ودُفن ليتحول المكان إلى مزارٍ يؤمّه مؤمنون من كافة الطوائف.
“يحمل رسالة سلام حقيقية”
وبعد زيارته عنايا، توجّه البابا إلى مزار سيدة لبنان في حريصا، وعلى وقع التصفيق والتراتيل، شقّ طريقه بين مدرجات البازيليك الفسيحة التي ضاقت بالمئات من الأساقفة والكهنة والمكرسين والعاملين الرعويين، الذين قبّل بعضهم يده وصافحوه بخشوع وحرارة.
وتأتي زيارة البابا لسيدة لبنان في حريصا، بعد صلاته عند القديس شربل، احتفالاً بـتنوع الكنيسة اللبنانية والتزامها الثابت بالخدمة رغم أصعب الظروف، بحسب ما ذكر موقع الفاتيكان.
واستُقبل البابا بترحيب حار، ووصفه البطريرك رافائيل بدروس الحادي والعشرون، بطريرك بيت كيليكيا للأرمن الكاثوليك، بأنه “شعلة حية من الصلاة والرجاء” تضيء لبنان، وأكد البطريرك أن لبنان “دليل حي على أن العيش المشترك ممكن، وأن المحبة هي أقوى من أي انقسام”، مشيداً بصمود الشعب اللبناني.
كما استمع بابا الفاتيكان أثناء زيارته لمزار سيدة لبنان إلى شهادات قدّمها عدد من المشاركين عن ظروف عملهم الكنسية والتحديات اليومية التي يواجهونها، بحسب وكالة فرانس برس للأنباء.
وقال أمامهم في كلمة ألقاها بالفرنسية “تمنحنا الصلاة القوة للاستمرار في الرجاء والعمل، حتى عندما يدوي ضجيج الأسلحة من حولنا وتصير متطلبات الحياة اليومية نفسها تحدياً”.
وحث البابا المسؤولين عن الكنائس والرعايا على الاهتمام بالشباب قائلاً: “من الضروري حتى وسط أنقاض عالم يعاني من فشل مؤلم، أن نقدم لهم آفاقاً حقيقية وعملية للنهوض والنمو في المستقبل”.
وقال الأب طوني إلياس، 43 عاماً، لوكالة فرانس برس للأنباء، على هامش مشاركته في لقاء البابا، آتيا من بلدة رميش الحدودية مع إسرائيل، التي تواصل شن ضربات على لبنان: “عشنا الحرب، لكننا لم نفقد الأمل”.
وأضاف: “جاء (البابا) ليؤكد أن ما عشناه لم يكن عبثاً، ونحن نؤمن أنه يحمل معه رسالة سلام حقيقية، سلام حيّ”.
ويعاني لبنان، الذي لطالما نُظر إليه على أنه نموذج للتنوع الديني في الشرق الأوسط، منذ عام 2019 من أزمات متلاحقة شملت انهياراً اقتصادياً غير مسبوق وارتفاعاً كبيراً في معدلات الفقر، فضلاً عن انفجار مرفأ بيروت في عام 2020.
كما فاقمت الحرب الأخيرة بين حزب الله وإسرائيل الوضع سوءاً، بعدما الحقت دماراً واسعاً خصوصاً في القرى الحدودية.
ولا يزال لبنان يعيش بعد عام من وقف النار تداعيات الحرب.
واختتم البابا كلمته بدعوة الحضور ليكونوا “عطر المسيح”، العطر الذي ينبع من “مائدة لبنانية سخية مشتركة يتنوع فيها الأكل، ويأكل منها الجميع في وحدة المحبة”.
وقدم البابا في ختام زيارته “الوردة الذهبية” لمزار سيدة لبنان، وهي علامة قديمة لتكريم مريم العذراء، فضلاً عن مباركة حجر الأساس لـ “مدينة السلام” التابعة لقناة “تيلي لوميار ونورسات”، مجسداً دعمه لمبادرات السلام والرجاء في المنطقة.
“أمل ورجاء بالسلام”
احتشد كثير من اللبنانيين للترحيب بالبابا وأعرب كثيرون عن أملهم في أن تمثل الزيارة دفعة للبلاد.
وقبيل مغادرته صباحاً مقر إقامته في السفارة البابوية في حريصا، انتظر لبنانيون كثيرون خروج موكب البابا لتحيته، من بينهم ربة منزل تدعى تيريز درعوني، 61 عاماً، قالت لوكالة فرانس برس للأنباء بفخر: “كل الناس تذهب إلى روما لرؤية البابا، لكنه جاء إلينا”.
وعلى بعد أمتار منها، وقفت سيدة أخرى تدعى ياسمين الشدياق، أمام منزلها وملامح الفرح على وجهها، وقالت لوكالة فرانس برس للأنباء بينما كان المطر ينهمر بغزارة: “زيارته ردت البسمة إلى وجوهنا، الحمدلله دائماً لدينا أمل ورجاء بالسلام”.
وأضافت: “أتمنى أن يبقى لبنان منارة وملتقى للدول”.
وعقب وصوله إلى بيروت قادماً من اسطنبول، المحطة الأولى في زيارته الخارجية، حث البابا المسؤولين اللبنانيين على أن يكونوا “في خدمة” شعبهم “الغني بتنوعه”.
كما دعا اللبنانيين إلى التحلي بـ “شجاعة” البقاء في بلدهم، رغم الصعوبات.
وكان لبنان قد أعلن الاثنين والثلاثاء يومي عطلة رسمية بمناسبة زيارة البابا لاون الرابع عشر، واتخذت البلاد تدابير أمنية مشددة، من بينها إغلاق الطرق وحظر تحليق المسيّرات، وإقفال المحال التجارية في وسط المدينة مساء الاثنين، قبل القداس المقرر صباح يوم الثلاثاء.
“مختلفون لكنهم متساوون”
كان الرئيس اللبناني، جوزف عون، قد استقبل بابا الفاتيكان، الأحد، وأقيمت مراسم استقبال رسمية في مطار رفيق الحريري الدولي بالعاصمة بيروت، حيث أُطلقت مدفعية الجيش قذائف ترحيبية بوصول البابا، كما أطلقت السفن الراسية في مرفأ بيروت أبواقها ابتهاجاً.
وقال عون إن لبنان “وطن الحرية لكل إنسان. والكرامة لكل إنسان. وطن فريد في نظامه، حيث يعيش مسيحيون ومسلمون. مختلفون لكنهم متساوون”.
وأكّد عون، خلال استقباله البابا بالقصر الرئاسي في بيروت: “إذا زال المسيحي في لبنان سقطتْ معادلة الوطن، وسقطت عدالتُها، وإذا سقط المسلم اختلت المعادلة واختلّت عدالُتها”.
وحذّر الرئيس اللبناني من أنه “إذا تعطّل لبنان أو تبدّل فسوف يكون البديل حتماً، خطوط تماس في منطقتنا والعالم بين شتى أنواع التطرف والعنف الفكري والمادي وحتى الدموي”.
وشدد عون على أن “مستقبل الشرق لا يمكن أن يُبنى إلا بالشراكة والتعددية والاحترام المتبادل”.
وفي خطابه للبنانيين، قال البابا لاون الرابع عشر: “لا توجد مصالحة من دون هدف مشترك، ومن دون مستقبل يسود فيه الخير على الشر الذي عانى منه الناس”.
وحثّ البابا الشباب اللبناني على البقاء في بلدهم، بدلاً من الهجرة التي تضاعفت بسبب الأزمات الاقتصادية والسياسية التي يعيشها لبنان.
وقال البابا: “ثمّة لحظات يكون فيها الهروب أسهل، لكن البقاء في الوطن أو العودة إليه قرار يحتاج إلى شجاعة وبصيرة”.
ومن القصر الجمهوري، خاطب لاون الرابع عشر اللبنانيين قائلاً: “أنتم شعب لا يستسلم؛ بل يتحدى الصعاب ويعرف دوماً أن يبدأ من جديد. صمودكم منارة لا يمكن الاستغناء عنها لصانعي السلام الحقيقيين. طوبى لصانعي السلام”.
ثم وجّه البابا خطابه للمسؤولين اللبنانيين: “أمّا يا مَن تحملون المسؤوليات المختلفة في هذا البلد، فلكم تطويبة خاصة إن استطعتم أن تقدّموا هدف السلام على كل ما عداه”.
وأضاف البابا: “لقد عانيتم كثيراً من تداعيات أزمة اقتصادية خانقة ومن التشدّد ومن النزاعات، لكنّكم انتصرتم لإرادة البدء من جديد”.
ويعاني لبنان انهياراً اقتصادياً استمر لسِتّ سنوات، ينسبه الكثير إلى شُبهات الفساد وسوء الإدارة. وفي ظل هذه الظروف يستضيف لبنان حوالي مليون من اللاجئين السوريين والفلسطينيين، بالإضافة إلى حوالي خمسة ملايين نسمة هي إجمالي عدد سكان البلاد.
