27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025
كان رون بيشوب يعرف أنه يكذب، كان في الرابعة عشرة من عمره، عندما وقف أمام القاضي كالشاهد الرئيسي في قضية قتل، عُرف أن الجريمة تخص ثلاثة مراهقين اتُّهموا بقتل صديق بيشوب المقرب، ديويت داكيت، في نوفمبر/تشرين الثاني 1983، أدلى بشهادته ضد ألفريد تشيسنوت، وأندور ستيورت، ورانسوم واتكينز، وقدمت النيابة العامة قضية قوية مدعومة بشهادة ثلاثة شهود آخرين، وكان بيشوب خائفاً من تبعات شهادته إذا تضاربت مع رواياتهم، حيث قال للبي بي سي: “لو أني قلت الحقيقة لتناقضت معهم، كان لديهم ثلاثة شهود يؤكدون إدانة المراهقين الثلاثة، واعتقدت أن هيئة المحلفين سترى أنني أكذب”، وهكذا أدت الأكاذيب التي أُدلي بها في تلك المحكمة إلى الحكم على ثلاثة مراهقين سود بالسجن المؤبد، وكانت هذه الإدانة واحدة من أكبر الأخطاء القضائية في تاريخ أمريكا، وقد تحمل بيشوب عبء الشعور بالذنب لأكثر من 30 عاماً، مدركاً أن كلماته أسفرت عن سجن ثلاثة أطفال أبرياء.
جريمة قتل في المدرسة
نشأ بيشوب في بالتيمور، وكانت المدرسة المكان الذي يشعر فيه بالأمان، لكن هذا الشعور كان دائماً هشاً منذ أن قُتل شقيقه في حادثة مجهولة، وقد قضى معظم وقته في المدرسة مع صديقين، أحدهما ديكيت، الذي كان طفلاً هادئاً وصامتاً، ولم يتطلب الأمر وقتاً طويلاً ليتعرفوا وينضم إليهم صديق آخر، وقرر الثلاثة عدم الاختلاط بكثير من أقرانهم، تجنباً للمشاكل المنتشرة بين الطلبة، وفي أحد أيام نوفمبر/تشرين الثاني 1983، طُرحت مشكلة، يقول بيشوب: “كنا نسير في الرواق، نتحدث ونمازح بعضنا، وفجأة سمعتُ أحدهم يطلب السترة”، وكان داكيت يرتدي سترة جامعة جورجتاون، وهي قطعة مرغوبة بشدة في تلك الفترة، وعندما استدار بيشوب، أدرك أنه كان هناك مسدس موجه إليه، وعند تراجعه خطوتين، وُجه السلاح إلى عنق ديويت، وركض مع صديقه، وحدثت فوضى، وعندما وصلا إلى الكافتيريا، سمعا الطلقة، وبعد لحظات، دخل ديويت وهو يمسك بعنقه قبل أن ينهار على الأرض.
بدء التحقيق
بعد الحادث، عاد الفتيان إلى منازلهما، دون أن يدركا خطورة إصابات ديويت، وبعد عدة ساعات، جاءت الشرطة تبحث عنهما، حيث كانت تلك أول مرة يُسأل فيها بيشوب على يد المحقق دونالد كينكيد، الذي بدا له رجلاً لطيفاً بأحاسيس قيادية واضحة، وقدم وصفاً دقيقاً للمشتبه به، مشيراً إلى أنه أطول منه، نحيل، ذو بشرة داكنة وشارب رفيع، وذكر الملابس التي ارتداها، وعندما عاد، أبلغه المحقق بخبر مروع: ديويت لم ينجُ، ولم يستطع بيشوب استيعاب ما يحدث، ووصف شعوره بأنه كان وكأنه في عالم آخر، وكل ما أراده هو العودة إلى المنزل والتمدد على سريره.
من مشتبه واحد إلى ثلاثة
بعد أيام من الجريمة، جاء المحقق كينكيد إلى منزل بيشوب، وعرض عليه صور عدة مشتبه بهم محتملين، وكان يعرفهم جميعاً، ورأى ألفريد، أندرو، ورانسوم، وأخبر كينكيد أنه لا يتعرف على أحد من هؤلاء بأنه ارتكب جريمة ديويت، ولاحظ خيبة الأمل على وجه المحقق، ثم غادر، وبعد أيام، أعاده المحقق إلى المركز، وهناك، كما قال بيشوب، تغيّر كل شيء، حيث أغلق المحقق باب غرفة التحقيق، وبدأ بتوجيه اتهامات ووصفه بالكذب، زاعماً أن شاهداً جديداً حدد ثلاثة من المشتبه بهم، وأدى ضغط المحقق إلى أن يوهم بيشوب بأنه عليه أن يقول ما يريدونه، وبنهاية التحقيق، وقع على إفادة تُحدد تشستنَت، وستيوارت، وواتكنز كالأشخاص المتورطين في القتل، مما أدى إلى اعتقالهم.
المحاكمة
بعد توجيه الاتهام رسمياً للشبان الثلاثة، قدم الادعاء أربعة شهود، بينهم بيشوب، خلال جلسة أولى تم التنسيق فيها لضبط الشهادات، وعندما جاء دور بيشوب، وجد صعوبة في الكلام، وقال: “لم أستطع أن أجمع أفكاري، وتوترت لأنهم طلبوا مني تذكر شيء لم يحدث، أي أن يطلبوا منك أن تكذب”، وحاول تصحيح الموقف والاتفاق مع صديق شاهده على قول الحقيقة، ولكن في يوم المحاكمة، حدث ما لم يكن متوقعاً حيث تم استدعاؤه كشاهد أخير، وهو ما منعه من قول الحقيقة، بعد أن رأى صديقه يشير إلى أن الجريمة ارتكبت من قبل ثلاثة، وتحت ضغط التهديد، أشار بيشوب إلى الثلاثة في المحكمة، وأدينوا بقتل ديويت وحُكم عليهم بالسجن المؤبد.
الشعور بالذنب
يقول بيشوب: “لقد اضطررت للعيش مع شعور الذنب، لأنني رأيت الفتيان يُرسَلون إلى السجن مدى الحياة، إلى سجن ولاية ماريلاند، حيث يعيش المجرمون، وهم لم يكونوا سوى في السادسة عشر والسابقة عشرة”، ولم ينتهي العذاب بعد المحاكمة، واصفاً حالته بأنه فقد الثقة بالجميع، وعرف أنهم لم يفعلوا شيئاً، وأن شخصاً آخر هو من ارتكب الجريمة، وتضاربت المشاعر حول إن كان أحد ما سيأتي لأجله، وتمكن بعد التخرج من الثانوية من الالتحاق بتخصص علم النفس، مع هدف وحيد وهو قول الحقيقة ذات يوم عن الأحداث التي جرت في يوم مقتل صديقه، وجاءت فرصته في عام 2019، عندما فتح مكتب الادعاء تحقيقاً جديداً بعد كشف مخالفات كبيرة، واستُدعي بيشوب، وكانت مشاعره المختلطة تتجدد، لكنه قرر حضور التحقيق ليقول الحقيقة حتى لو انتهى به الأمر في السجن.
أسفرت شهادة بيشوب عن معلومات جديدة، إذ ساعدت في الوصول إلى الشهود الثلاثة الآخرين الذين تراجعوا عن إفاداتهم، وكشف التحقيق عن أن الشرطة أرغمت القاصرين على الإدلاء بشهادات زائفة، كما تبين أن الادعاء لم يحقق في فرضية بديلة، حيث حدد أحد الشهود رجلاً آخر هو مايكل ويليس، الذي كان بالقرب من المدرسة قبل أن يُقتل في حادث عام 2002، وبعد 36 عاماً، في 25 نوفمبر 2019، أُطلق سراح الرجال الثلاثة، وفي أكتوبر 2023، أجرت مدينة بالتيمور تسوية بقيمة 48 مليون دولار لتعويضهم عن هذا الظلم الجسيم، بالنسبة للسيد بيشوب، كانت حريتهم عملية مريحة، لكنها لم تمنحه السلام الداخلي، حيث أفاد بأنه لو سُمح له بالتحدث معهم، لاعتذر، قائلاً: “أفكر بهم كل يوم، سواء فقدوا فرص تكوين عائلة أو إنجاب أطفال. أشعر بأنني كنت جزءًا من حرمانهم من حياة منتجة كرجال أحرار”.
هذا المقال مستند إلى حلقة من بودكاست Lives Less Ordinary من إنتاج بي بي سي، مع مساهمات إضافية من بي بي سي موندو.
