«نور الجزائر يتحدى الكون» الفيزيائي نور الدين مليكشي يسلط الضوء على استكشاف المريخ

«نور الجزائر يتحدى الكون» الفيزيائي نور الدين مليكشي يسلط الضوء على استكشاف المريخ

في خضم التنافس العلمي العالمي المحتدم، يبرز اسم البروفيسور الجزائري، نور الدين مليكشي، كأحد الرواد الذين نجحوا في مد جسر من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى أعمق نقاط الاكتشاف العلمي في العالم، وتحديدا نحو الكوكب الأحمر، مليكشي، العالم الفيزيائي المرموق، ليس مجرد باحث أكاديمي، بل هو رائد في مجال البصريات التطبيقية، أسهم بشكل مباشر في أهم بعثات وكالة ناسا لاستكشاف المريخ، وحقق اختراعات بصرية وطبية ذات أثر مباشر على حياة البشر، حيث تتجاوز قصة مليكشي حدود الإنجاز الشخصي لتصبح نموذجا يُحتذى به في إمكانيات الكفاءات العربية عندما تُتاح لها الفرص، فمنذ نشأته في مدينة الثنية ببومرداس، مرورا بتفوقه الأكاديمي في الجزائر وبريطانيا، وصولا إلى قيادته لفرق بحثية عالية التخصص في الولايات المتحدة، ظل مليكشي يمثل الرابط الحيّ بين النظرية والتطبيق، نتناول في هذا المقال مسيرة هذا العالم الفذ، ونتنقل بين فصول إنجازاته الكبرى بدءا من الجذور التعليمية ووصولا إلى دوره الريادي الحالي، مركّزين على اللحظات الفارقة التي جعلت منه بالفعل “سفير المريخ”.

جذور المعرفة

وُلد نور الدين مليكشي سنة 1958 في مدينة الثنية بولاية بومرداس، مدينة تتعايش فيها الطبيعة الجبلية مع بساطة الحياة الجزائرية، وكأنها المكان المثالي لبداية حكمة تتشكل بهدوء، في تلك الأزقة الضيقة والمدارس الابتدائية المتواضعة زرعت البذور الأولى لفضول علمي لم يكن أحد يتوقع أنه سيكبر ليصل إلى مختبرات ناسا، في ثانوية عبان رمضان بالحراش، حيث اختلط طموح أبناء الطبقات الشعبية مع بدايات التحولات التعليمية في الجزائر بعد الاستقلال، بدأ نور الدين يلتفت إلى الفيزياء والرياضيات كما لو كانت لغات سرية لفهم العالم، حصل على شهادة البكالوريا في الرياضيات سنة 1976، ثم التحق بجامعة هواري بومدين للعلوم والتكنولوجيا، التي كانت وما زالت إحدى أهم المؤسسات العلمية في إفريقيا والعالم العربي، وهناك نال دبلوم الدراسات العليا في الفيزياء عام 1980، في تلك السنوات، لم يكن العلم بالنسبة إليه مجرد دراسة، بل كان محاولة لاكتشاف بنية الكون عبر صرامة معرفية منحتها له مقررات الفيزياء، وتفتيح روحي صنعته الأسئلة الكونية التي ترسّبت في ذهنه كلما قرأ عن بنية الضوء أو طبيعة المادة، لقد كان يدرك intuitively أن العالم الحقيقي لا يبدأ في المدرجات، بل في داخل تلك اللحظة التي تشتعل فيها الرغبة في الفهم.

العبور نحو أوروبا

حين قرر مليكشي مغادرة الجزائر إلى بريطانيا، لم يكن الأمر هروبا من وطن، بل كان عبورا نحو مستوى آخر من المعنى، في جامعة Sussex، التي تُعدّ من الجامعات التي تُشرف باستمرار على بحوث في الفيزياء النظرية والبصريات الكمية، انفتح أمامه فضاء معرفي لم يكن ممكنا في بلدان نامية، حصل في عام 1982 على درجة الماجستير، ثم واصل نحو الدكتوراه التي نالها سنة 1987 بعد بحث متخصص تحت إشراف الفيزيائي البريطاني المعروف Leslie Allen، أحد أعلام البصريات الكمّية، كانت أبحاثه في تلك المرحلة تعالج مفاهيم عميقة تتعلق بالتحكم البصري في الانتقالات الإلكترونية، وهي موضوعات تُعد اليوم أساسا في تقنية الليزر فائقة الدقة، لكنها آنذاك كانت في مقدمة الأبحاث التجريبية في البصريات الحديثة، في بريطانيا، لم يكتشف مليكشي المعرفة فقط، بل اكتشف نفسه كجزء من مجتمع علمي عالمي، وتعلم أن العلم ليس مجرد مقالات أو مختبرات، إنما تجاوز ذلك إلى شبكة معقدة من التراث الفكري، والعمل الجماعي، والإيمان بأن الأسئلة الكبرى لا تنتمي إلى بلد واحد، ومع نهاية الثمانينيات، بات اسمه مرتبطا بمدرسة بحثية جادة، وأصبح مستعدا لأن ينتقل إلى مكان آخر، أكثر قدرة على السماح لأفكاره بالتجسّد، الولايات المتحدة الأمريكية.

البحث في أمريكا

عند وصوله إلى الولايات المتحدة، حمل معه ما يكفي من الرؤية ليحوّل أي مؤسسة ينضم إليها إلى ورشة بحثية حيّة، في Delaware State University، وهي جامعة ذات حضور قوي في برامج العلوم والهندسة ضمن مبادرات الـ NSF، لم يكتف بالتدريس أو النشر العلمي، إنما أسّس أولا مركز البصريات التطبيقية Applied Optics Center، وهو أول نواة لما سيصبح فيما بعد منظومة بحثية واسعة، ثم نجح في الحصول على دعم المؤسسة الوطنية للعلوم NSF لتأسيس مركز للتميز في العلوم والتكنولوجيا (CREST)، متخصص في التطبيقات البصرية، وهو إنجاز لا يُمنح إلا بعد مراجعات وطنية صارمة تشمل معايير التأثير العلمي وبناء القدرات البحثية، وبعدها أسهم في ميلاد مركز ثالث بالشراكة مع NASA، مخصص للبحوث البصرية في علوم الفضاء، هذه المراكز الثلاثة اندمجت مع الوقت في مؤسسة واحدة قوية، OSCAR: Optical Science Center for Applied Research، وهو مركز فريد في نوعه استطاع جذب عشرات الباحثين، وإنتاج أبحاث منشورة في مجلات رفيعة، وإطلاق أجيال من الطلبة الذين أصبحوا أنفسهم علماء في مؤسسات أمريكية مرموقة، لقد صنع مليكشي شيئا أكبر من إنتاج علمي، إذ صنع بيئة علمية متكاملة، مؤسسة قادرة على إنتاج المعرفة لسنوات طويلة، وهذا ما لا يستطيع تحقيقه إلا من يمتلك رؤية استراتيجية عميقة.

البحث عن المريخ

لكن المجد الأكبر في مسيرة مليكشي جاء حين أصبح جزءا من فريق ناسا العلمي في مهمة Curiosity Rover التي هبطت على سطح المريخ سنة 2012، كان دوره مرتبطا بجهاز ChemCam، وهو أحد أهم أجهزة الاستشعار العلمي في المسبار، الذي يعتمد على تقنية LIBS – Laser Induced Breakdown Spectroscopy – وهي تقنية تُطلق نبضات ليزرية تخلق بلازما صغيرة على سطح الصخرة، ثم تُحلّل الأطياف الناتجة لتحديد العناصر الكيميائية بدقة مذهلة، هذه التقنية، التي تُعتبر اليوم معيارا في تحليل المواد عن بُعد، كانت في ذلك الوقت واحدة من أكثر التقنيات المستقبلية جرأة، وكان لمليكشي دور بارز في تطوير منهجيات تحليل بياناتها، ما ساهم في فهم تاريخ المريخ المائي، وأعطى أدلة مهمة على وجود مياه سائلة قديمة، واصل هذا العمل لاحقا في مهمة Perseverance عبر جهاز SuperCam الأكثر تطورا، ليصبح اسمه مرتبطا بأعمق التجارب البشرية في محاولة فهم كوكب آخر، ولشدة تقدير ولاية ديلاوير لإنجازه، منحته لقب “سفير المريخ”، وهو تكريم نادر يعكس عمق بصمته في العلوم الفضائية، في هذه اللحظة من مسيرته، بدا وكأنه اكتمل الدور، شاب من الثنية يساهم اليوم في قراءة تاريخ كوكب يبعد مئات الملايين من الكيلومترات، مستخدما الضوء نفسه الذي بدأ fascination به منذ الصغر.

التطبيقات الطبية

على الرغم من حضوره المدهش في علوم الفضاء، فإن جزءا مهما من مسيرة مليكشي مرتبط بإنقاذ الحياة على الأرض عبر تقنيات البصريات التطبيقية الطبية منذ عام 2009، سجّل أكثر من 14 براءة اختراع في الولايات المتحدة، أغلبها يتعلق بأجهزة بصرية دقيقة للكشف المبكر عن السرطان باستخدام تقنيات تجمع بين الليزر والكيمياء النانوية والتحليل الطيفي، يتركز اهتمامه اليوم على تطوير منظومات بصرية جديدة للكشف المبكر جدا عن سرطان المبيض وسرطان البروستات، قبل أن تصبح الخلايا سرطانية بشكل كامل، أي في المراحل التي يسميها الباحثون “المرحلة ما قبل الجزيئية”، وهي مرحلة بالغة الأهمية لأنها تسمح بالعلاج الوقائي بدلا من العلاج المتأخر، كما تمتد تطبيقاته إلى مجالات أخرى كطب الأسنان، والهندسة المدنية عبر تحليل المواد الإنشائية، وعلم المحيطات، ما يميّز هذه المرحلة من حياته أن العلم لم يعد مغامرة معرفية فحسب، بل أصبح مسؤولية إنسانية، لقد عاد الضوء الذي حمله نحو المريخ ليُستخدم أيضا في إنقاذ حياة بشر يعيشون هنا، على الأرض.

الإرث العلمي والفكري

منذ عام 2016، تولّى مليكشي عمادة كلية العلوم في University of Massachusetts Lowell، وهي من أكبر كليات العلوم في الساحل الشرقي الأمريكي، هناك يشرف على برمجيات بحثية واسعة، ويُسهم في رسم سياسات علمية تؤثر على آلاف الطلبة والباحثين، حاز على جوائز عدة من NASA وNSF وNIH، وشارك في لجان مراجعة علمية مرموقة، وكتب مقالات مؤثرة، لكنّ القيمة الحقيقية لما صنعه لا تختصرها الجوائز، فمسيرته أصبحت اليوم جزءا من السردية العلمية العربية المعاصرة، السردية التي تقول إن العالِم العربي ليس صفحة من الماضي، بل امتداد طبيعي لحاضر عالمي متسارع، إرثه لا يتمثل فقط في المراكز التي أنشأها أو البعثات التي شارك فيها، إنما يكمن في قوة النموذج الذي يقدمه، هكذا تتجسد سيرة شاب جزائري لم يمنعه انتماؤه الجغرافي، ولا محدودية إمكانات بلده الأصلية، ولا صعوبة الهجرة، من أن يصبح أحد الأصوات العلمية المعترف بها في أكثر مؤسسات العالم تطورا، لقد صنع مسارا يشبه الضوء نفسه، لا يعرف الحدود، ولا يتوقف عن التقدم، ولا يمكن القبض عليه في قالب واحد، إنه برهان على أن العلم، حين يلتقي بالطموح، يصبح قادرا على أن يعبر الأوطان والكواكب، وأن يكتب قصته الخاصة في هذا الكون الواسع.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *