«التوجه النووي السلمي في مصر: آفاق جديدة للتنمية»

«التوجه النووي السلمي في مصر: آفاق جديدة للتنمية»

خلال فترة عملي كملحق عسكري في تركيا لمدة ثلاث سنوات، كان الرئيس التركي تورغوت أوزال هو أكثر رؤساء تركيا صداقة لمصر، وعندما زار الرئيس الراحل مبارك تركيا، وُلّدت مراسم استقبال غير مُتَناهية لم يشهدها أي رئيس عربي أو أوروبي سابق، حتى الرئيس الفرنسي الذي سبق زيارته بأسبوعين.

وفاة الرئيس أوزال

فجأة، توفي الرئيس تورغوت أوزال، وفي تلك الأثناء كنت في حديث مع السفير المصري في تركيا آنذاك، السفير محمد الدواني، الذي يُعتبر من أبرز السفراء في تاريخ الخارجية المصرية، وكان النقاش حول من سيمثل مصر في جنازته: هل سيكون الرئيس مبارك أم رئيس الوزراء.

مشاركة الوزير أباظة

في صباح ذلك اليوم، تلقينا عبر الفاكس أن الممثل المصري في الجنازة سيكون وزير الكهرباء، المرحوم ماهر أباظة، وقد أثار هذا الاختيار دهشتنا، لكننا اكتشفنا لاحقًا أنه من أصل تركي، إذ هاجرت عائلته من إقليم هابظيا إلى مصر، واستقرت في محافظة الشرقية، لتصبح واحدة من أكبر العائلات في المنطقة، لذا رحبت الصحافة التركية في اليوم التالي بإرسال مصر أحد أهم وزرائها الذي له جذور تركية.

احتفالات عائلية

بعد حضور الجنازة، عندما عدنا إلى مبنى السفارة مع الوزير ماهر أباظة، وجدنا مئات الأتراك من عائلة “أباظة” قد جاءوا من محافظتهم لتهنئة ابن عمهم المصري التركي الأصل، وكانت مظاهرة جميلة تظهر مشاعر الحب بين مصر وتركيا.

مشروع الطاقة النووية

أخبرنا الوزير أباظة بمدى حزنه لأنه قدم للرئيس مبارك في ذلك الوقت فكرة إقامة محطة نووية لإنتاج الكهرباء، ورغم موافقة الرئيس، حدثت كارثة تشيرنوبيل والتسرب الإشعاعي بعدها، ما أدى إلى صدور قرار مبارك بعدم إدخال المحطات النووية إلى مصر، وقد حاول الوزير إقناع الرئيس بأن المحطة المعنية كانت روسية قديمة، وأن العالم قد شهد تقدمًا كبيرًا في معايير السلامة النووية لكن، قوبل بسلسلة من الرفض.

البداية الجديدة

مرت الأيام حتى أعلن الرئيس السيسي إدخال مصر عصر الطاقة النووية السلمية من خلال إنشاء محطة الضبعة، خاصة بعد ارتفاع أسعار النفط عالميًا، وبدأت المحادثات مع الولايات المتحدة لإنشاء المحطة، لكنها تعثرت، فبدأت مفاوضات جديدة مع فرنسا لكن لم تحقق النجاح أيضًا.

اختيار الموقع

كان من المقرر في البداية إنشاء المحطة في منطقة سيدى كرير، لكن التوسع العمراني الكبير في الساحل الشمالي أدى إلى تغيير القرار إلى منطقة الضبعة، ومع الاعتراضات التي ظهرت بسبب حادثة تشيرنوبيل، ارتفعت الأصوات المطالبة بالاستخدام للغاز الطبيعي والنفط بدلاً من ذلك، لكن الدراسات الحديثة أثبتت أن المفاعلات الجديدة لن تشابه مفاعل تشيرنوبيل، وأن معايير سلامة التشغيل الحالية كفيلة بتجنب مثل هذه الحوادث، وهنا جاء دور الرئيس السيسي في إحياء المشروع بالتعاون مع روسيا، وبدء الدراسة من خلال هيئة المحطات النووية المصرية.

توقيع الاتفاق

صدرت توصيات بإمكانية مصر لبناء وتشغيل أول محطة نووية باستخدام التكنولوجيا الروسية، حيث طلعت منطقة الضبعة كأفضل مكان على ساحل البحر المتوسط، والهدف يتمثل في توفير كهرباء نظيفة ورخيصة للبلاد، وتم توقيع الاتفاق في نوفمبر 2015، ليبدأ التنفيذ في عام 2017، مع توقّع الانتهاء من المشروع بين عامي 2028-2029.

تفاصيل المشروع

يتكون المشروع من أربعة مفاعلات، بتكلفة تصل إلى 21 مليار دولار، ووفقًا للعقد المبرم مع الجانب الروسي، فإن روسيا ستتولى بناء المحطة بالكامل، وتوريد الوقود النووي لمدة 60 عامًا، مع تدريب الكوادر المصرية ودعم التشغيل والصيانة في العقد الأول، بالإضافة إلى إنشاء مرافق لتخزين الوقود المستنفد وتوفير حاويات آمنة.

مستقبل الطاقة في مصر

وستستفيد مصر من هذا المشروع، حيث ستحقق الاكتفاء الذاتي من الكهرباء، وستصبح أكبر مركز إقليمي للطاقة النظيفة في الشرق الأوسط، وفق رؤية مصر 2030، حيث يُعتبر وعاء الضغط أحد أهم المكونات الحيوية لأي محطة نووية، فهو يحتوي على قلب المفاعل، ويسمح بإنجاز سلسلة التفاعلات الانشطارية، وهو مصمم لتطبيق ضغوط عالية ودرجات حرارة تتعدّى 300 درجة مئوية، مع ضمان عدم تسرب المواد المشعة.

إنجاز بالمحطة النووية

وصل وعاء الضغط الخاص بالوحدة الأولى إلى ميناء الضبعة في 21 أكتوبر 2025، بعد نقله من روسيا عبر سفن متخصصة في عملية لوجستية معقدة، استغرقت عدة أسابيع، وتم تأمينه وفق أعلى معايير السلامة العالمية، وستلعب محطة الضبعة دورًا محوريًا في تعزيز الشبكة الكهربائية المصرية من حيث القدرة الانتاجية والاستقرار بل، وتصدير الفائض لدول الجوار.

احتفالات التركيب

وقد شهد العالم احتفالية الرئيس المصري بتركيب أول وعاء ضغط للمفاعل الأول، والذي يمثل إنجازًا حضاريًا عظيمًا، لتكون مصر هي الأولى في المنطقة لدخول عصر الطاقة النووية السلمية.

رؤية مصر المستقبلية

وهكذا، تبقى مصر دائمًا في الصدارة من حيث الفكر والتطوير، لمصلحة المواطن المصري.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *