«إثارة الجدل حول قصة المياه المعدنية في مصر»

«إثارة الجدل حول قصة المياه المعدنية في مصر»

لم يتوقع متابعو صفحة “الأكيلانس” على “يوتيوب” أن تتحول مقاطع الفيديو التي اعتادوا مشاهدتها لتقييم المنتجات الغذائية، والتي كانت مصدر معلوماتهم، إلى سبب إثارة جدل كبير في مصر، مما أدى إلى ضبط القائمين عليها.

سرعان ما ازدادت شعبية الصفحة التي يديرها شابان مصريان، بسبب تقديم تحليلات مقارنة للمنتجات الغذائية، واستخدموا أسماء مستعارة مع تغيير بعض الكلمات، حتى يتمكن المتابعون من التعرف على المنتجات دون ذكرها صراحة، وذلك تفادياً للملاحقة القانونية من الشركات.

بعد نشر عدة مقاطع فيديو تتناول منتجات متنوعة، مشيرة إلى وجود مشكلات محتملة في سلامتها، ومع الضجة التي أثارتها مقاطع تتعلق بعبوات مياه معدنية، أعلنت وزارة الداخلية المصرية ضبط القائمين على الصفحة.

قالت الوزارة في بيان عبر “فيسبوك”: “في إطار التحقيق في عدد من مقاطع الفيديو المتداولة، تم التوصل إلى أن صانعي المحتوى يشككون في سلامة بعض المنتجات الغذائية ومدى صلاحيتها للاستخدام”.

وأضاف بيان الوزارة: “عقب الفحص، تم تحديد الشخصين المشاركين، وبمواجهتهما اعترفا بإجراء تحاليل لبعض المنتجات في عدة معامل بهدف زيادة المشاهدات وتحقيق أرباح مالية”.

تعاطف مع المتهمين

توالت التعليقات على منشور الوزارة، ليصل عددها إلى نحو 25 ألف تعليق، ورغم أن متابعين عادة ما يشيدون بالإجراءات القانونية، إلا أن الكثير منهم أعربوا عن تعاطفهم مع الشابين، متسائلين عن أسباب اعتقالهما، معتبرين أنهما يقدمان محتوى يعتمد على نتائج تحاليل ويهدف إلى توعية المواطنين.

رأى بعض المتابعين أن نسب المشاهدات وتحقيق الأرباح من هذه المقاطع لا يعتبر جريمة، بينما تساءل آخرون عن مدى صحة المعلومات حول المياه المعدنية الملوثة والاتهامات الموجهة للشابين، معتقدين أنه ينبغي أن تتم التحليلات في معامل حكومية معتمدة، وأن يتم الضبط بعد التأكد من سلامة المنتجات.

وفي مداخلة تلفزيونية، صرح المتحدث باسم وزارة الصحة حسام عبدالغفار بأن الوزارة تعلم الآليات التي تتبعها في التحليل وتعلنها بشكل واضح، مؤكداً أنها متأكدة من نتائج تحاليلها وسلامة المنتجات المرخصة عبر هيئة الغذاء، ودقة معاملها والعاملين بها.

من ناحية أخرى، تعلن الأجهزة المعنية من وقت لآخر عن مصادرة منتجات مغشوشة، إذ كشفت الحملات التموينية في أسيوط عن ضبط كميات كبيرة من السلع الفاسدة، ومنها 2331 كيلوغراماً من اللحوم والفراخ والكبدة، بالإضافة إلى اللحوم المذبوحة خارج المجزر الرسمي ودواجن غير صالحة للاستهلاك الآدمي.

الموقف القانوني

يوضح المحامي المصري أحمد مصيلحي لـ”اندبندنت عربية” أن نشر المقاطع مع استخدام أسماء مستعارة لا يُعتبر إدانة، ولكن إذا ثبت أن المحتوى موجه دون دليل، فيمكن أن تصل عقوبة النشر إلى ستة أشهر، مشيراً إلى أن المعيار في النشر هو التأكد من صحة المعلومات أو الاستناد إلى حكم قضائي أو تقرير معتمد، وأن استخدام أسماء مستعارة قد يحمي صاحب المحتوى من المسؤولية القانونية في حال عدم توجيه اتهام صريح.

على الجانب الآخر، أكد مؤسس المركز القومي للسموم محمود عمرو أن التشهير بأي شركة دون أدلة موثوقة يعد جريمة، وأن أي ادعاءات فساد أو غش في المنتجات يجب أن تدعم بتحاليل رسمية من معامل معتمدة تابعة لوزارة الصحة أو الزراعة، وفي حال ثبوت المشكلات، يمكن رفع القضايا إلى الجهات القضائية المتخصصة.

أثارت الضجة تحديداً بعد أن عرض الشابان مقطع فيديو يقارنان فيه بين أنواع من المياه المعدنية، حيث قالا إن بعضها ملوث بمياه الصرف الصحي، مشيرين إلى أنهما اعتمدا على المواصفات القياسية المصرية، وتحاليل تشمل الفحوصات الميكروبيولوجية، اللون، الرائحة، درجة الحموضة، ونسب الأملاح في المياه، التي أظهرت وجود تلوث بكتيري وسوء نظافة وتخزين، وعدم مطابقة للمواصفات القياسية، بل وجود تلوث برازي في بعض القوارير.

عمليات ضبط واسعة

كشفت “اندبندنت عربية” في تحقيق لها عن ضعف الرقابة على المياه المعدنية في مصر، حيث أشار متخصصون إلى أن كثيراً من المياه التي تُباع كالمعدنية ليست إلا مياه معبأة، غالباً ما تكون مياه جوفية أو تأتي من صنابير عادية يتم غليها ثم تبريدها، مع إضافة مكملات غذائية، وأن بعض هذه المصانع لا تلتزم بالمعايير، مما يستدعي رقابة صارمة.

تشمل طرق الاحتيال والغش في سوق المياه المعبأة العديد من الحيل، إذ عُرفت واقعة تعود إلى فبراير من العام الماضي عندما ضبطت مديرية تموين البحيرة 6 آلاف زجاجة مياه معدنية مجهولة المصدر خلال حملة على أسواق مدينة كفر الدوار، وعُرفت عمليات الغش هذه باسم “مصانع بير سلم”.

في أغسطس 2024، ضبط مصنع في مطروح يعمل بلا ترخيص، يعيد استخدام زجاجات مياه معدنية فارغة وتعبئتها بالماء لبيعها مجددًا، وأظهر تقرير مديرية الصحة في المحافظة أن المياه المستخدمة غير صالحة للشرب بوجود فطريات وشوائب.

قبل نحو ثلاث سنوات، عُثر داخل مصنع في المرج غير مرخص على 13 ألف زجاجة مياه معدنية بأحجام مختلفة، كلها مجهولة المصدر ومن دون مستندات، بالإضافة إلى 2000 زجاجة فارغة كانت معدة للتعبئة، وكميات كبيرة من الملصقات، كما تمكنت الأجهزة الرقابية من ضبط مصنع شهير بتعبئة عبوات المياه من مياه الصنابير العادية.

لم يقتصر تداول المياه المغشوشة على المناطق النائية، بل وصلت إلى مدينة شرم الشيخ، إذ كشفت حملة استهدفت شركات المياه المعبأة هناك عن ضبط 3670 غالون مياه بوزن 70 طناً في إحدى شركات المياه، لمخالفتها للمواصفات والقوانين المصرية، حيث كانت تقوم بتقليد عبوات شركات كبرى لتعبئة مياه الشرب الطبيعية.

تلك الواقعة أعادت للأذهان تفاصيل حدثت عام 2014 عندما تم ضبط كميات كبيرة من المياه المعدنية غير صالحة للاستهلاك الآدمي، محملة على عشرة سيارات نقل، كانت متوجهة إلى شرم الشيخ لتوزيعها على الفنادق والقرى السياحية.

تجاوزات وحيل

قال المتخصص الدولي في شؤون المياه أحمد فوزي دياب إن حيل الغش الشائعة متعددة، منها استخدام أسماء علامات تجارية شهيرة ووضع ملصقات مقلدة، مبرزاً مسؤولية وزارة الصحة في الرقابة على هذه الممارسات، ومشيراً إلى أهمية تقديم أدلة موثوقة عند انتقاد منتجات أو شركات.

وحاولنا التواصل مع مساعد وزير الصحة والسكان عمرو قنديل، لكنه رفض التعليق على انتشار أصناف المياه المغشوشة في السوق المصرية، مكتفياً بالقول: “مياه معدنية (غير مطابقة للمواصفات) بكميات كبيرة” دون توضيح المزيد.

تحدث مجلس النواب المصري عن هذه الأزمة عدة مرات، حيث تقدمت النائبة روان لاشين بطلب إحاطة موجّه لوزير التموين والتجارة الداخلية بشأن انتشار “مصانع بير سلم”، التي تعبئ المياه العادية على أنها مياه معدنية داخل زجاجات تحمل علامات تجارية وهمية، مؤكدةً أن هذه المصانع تعيد استخدام الزجاجات البلاستيكية أكثر من مرة، مما يمثل خطراً على صحة المواطنين.

اعتبرت لاشين أن هذا التفاعل مع البلاستيك قد ينتج عنه مواد مسرطنة، خصوصاً إذا تعرض البلاستيك لأشعة الشمس، بينما أبرز رئيس قطاع المياه الجوفية السابق سامح صقر ضرورة التزام حفر الآبار لضمان استدامة المخزون الجوفي، وألا تكون البئر في نطاق مصادر تلوث معروفة.

أوصى صقر بأن تقوم الوزارات المعنية، مثل الصحة والتموين، بوضع قاعدة بيانات تتضمن معلومات حول عدد زجاجات المياه المعبأة من الشركات الحاصلة على تراخيص، والكمية التي تصل إلى السوق، ونسبة المبيعات، مشيراً إلى عدم وجود نظام تتبع لمراقبة الانتهاكات في هذه السوق.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *