الحديث عن القوى الناعمة المصرية وانحسارها أو تعاظمها يملأ الفضاء العام منذ عقد على الأقل بلا انقطاع.
يُقال أحيانا إنها بازغة، ويُعتقد في أحيان أخرى أنها متراجعة، ويتردد كثيرا أنها مستخدمة بواسطة أطراف أخرى في الإقليم، لأغراض مختلفة.
ويسوق كل طرف أحداثًا متناثرة وشواهد غير مترابطة بالضرورة، ليدلل على هذا المنحى أو ذاك الاعتقاد.
المعايير المتداولة في الحديث
وينصرف الحديث دوما إلى معيارين بعينهما في هذا الصدد، أولهما أداءات السياسة الخارجية بمسافتها من الخيال الجماهيري عنها، وثانيهما درجة حضور الفن المصري في المشهد العربي عموماً، ومدى هيمنته وإلهامه ولفته للأنظار.
يعتبر كثير من المصريين أن كل سياسة خارجية مصرية لا تتضمن الإنفاذ القهري لرؤية مصر على كافة الأطراف تعد تراجعاً، وأن كل حضور فني لدولة أخرى بمثابة انحسار للدور المصري ويخصم من حصة القاهرة بالضرورة.
والمدهش حقًا هو إغفال النتاج الثقافي والأدبي المصري من هذه المعادلة تقريبًا، رغم الحضور البارز الذي لا يخفى في هذا الصدد.
جوائز ثقافية تمثل مصر
فقبل أيام، على سبيل المثال، ظهرت نتائج جائزة الشيخ زايد للكتاب بدولة الإمارات، وهي واحدة من أبرز جوائز الثقافة العربية، وكذا نتائج جائزة الشيخ يوسف بن عيسى في الكويت، ممثلة في القوائم الطويلة للمرشحين لكلتا الجائزتين اللتين تغطيان العالم العربي تقريبًا.
وكالمعتاد، لمصر حصة بارزة وحضور لافت على مستوى الرواية والأدب والإنتاج الفكري، وهو أمر متكرر كل عام تقريبًا على مستوى كل الجوائز الثقافية والإبداعية العربية، البارزة ومتوسطة الشهرة والهامشية.
قد يحصر البعض المسألة، حسداً من عند أنفسهم، في تفسير إنتاج مصر المعرفي بأنه مرتبط بعدد سكانها والذين يفرزون مبدعين بشكل دائم وفقًا لنسبة وتناسب الأمور.
وقد ينحو البعض بالقياس إلى الإشارة من طرف خفي، لضرورة تمثيل مصر في القوائم النهائية لمرشحي أي جائزة بوصفها الثقل المعرفي القديم والكتلة السكانية التي تكفي بالتفاتها إلى أي جائزة أو فعالية لجعلها ملء السمع والبصر، بمعزل عن مستوى مشاركاتها أو إبداع أبنائها.
وهي اعتبارات قد تساهم جزئيًا أو تفسر بعض الحالات، لكنها ليست قواعد حاكمة قاهرة بأي حال من الأحوال.
حضور مصر في المشهد الثقافي
فلو كانت المسألة بالتعداد السكاني ونسبة التعليم، لحاصصت دول أخرى مصر في نسبة الحاضرين في قوائم الترشيحات الأخيرة أو عدد الفائزين، ولو كانت المسألة مرتبطة بلفت نظر المصريين، وهم الأعلى صوتًا وإن لم يكونوا الأكثر هيمنة على المجريات، فإن بعض المشروعات التي تندرج تحت بند صناعة القوى الناعمة، قامت بالأساس لتتجاهل المصريين أو لتزاحمهم أو تستبدلهم ولو على المدى الطويل.
ومن ثم فالشاهد الأكبر أن مصر حاضرة في المشهد الثقافي والمعرفي العربي، بالجوائز والترشيحات والمبيعات ومعدلات القراءة والأثر المترتب على بعضها والصخب المرتبط بالبعض الآخر، وإن لم تكن على تمام حال النجومية الذي لا يجود به الزمان إلا على فترات متباعدة.
واقع الثقافة المصرية
فقد لا تكون الشاكلة العامة للحال الذي نحن عليه كما كانت الأيام الخوالى حين اجتمع في عصر واحد نجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم والعقاد وطه حسين وسواهم من الأساطين، لكننا لسنا في فراغ موحش كما لو كان جراد الأيام قد أتى على كل شيء في هذه البلاد فتركها قاعًا صفصا.
والمشهد العام في مصر غير منفصل عن المشهد العام عالميًا، ففرنسا في ذات الحقبة التي تألقت فيها مصر على نحو استثنائي، كانت تملأ الدنيا فكرًا وأدبًا وفلسفة بنخبة من الأسماء التي لفتت انتباه العالم كله، فهل فرنسا على سبيل المثال لا تزال تبسط ذات النفوذ الثقافي اليوم بأسماء مثل «سارتر» و«بارت» و«فوكو» و«كامي» و«جيد»؟
أزعم أن عملية إنتاج المعرفة وصناعة الإبداع على مستوى العالم تشهد تغيرًا في صيغتها ومساحات امتدادها، وفي قدرة أي مشروع ذي ملامح متماسكة على طرح ذاته وسط الصخب الذي لا ينتهي ووسط التطور التكنولوجي المذهل وسرعة وتيرة كل شيء منذ ثلاثة عقود على الأقل.
ومن ثم فإن التحسر على ضياع الثقافة المصرية في غياهب الجب ليس تصورًا دقيقًا تمام الدقة في رأيي، فالرواية المصرية والكتاب المصري حاضران بقوة حتى وإن لم يكونا على مستوى طموحات تصورات المصريين عن أنفسهم، بل يمتد الأمر للروايات الخفيفة من أدب الرعب وأشباهه، والتي تحقق مبيعات مدهشة في مصر والعالم العربي.
تحديات وتطلعات
أشعر أننا، كمصريين، أدمنا الندب واللوم، ونحاسب أنفسنا اليوم بمعايير زمن خلا، في السياسة والفن والثقافة وكل شيء، وسط النحيب والتحسر على الأيام الخوالى، نغفل عما نصنعه الآن باستمرارية لافتة.
لدرجة أن تصدُر المصريين في يوم واحد لقائمتين أدبيتين عربيتين لم يحظ بأية تغطية مكثفة صحفيًا ولا تلفزيونيًا، ولا تلقاها الرأي العام بذات الترحاب المعهود مع موضوعات أخرى، وكأن أدباءنا وكتابنا يحملون جنسية دولة أخرى، في حين تهلل صحافة وفضائيات دول عربية شقيقة لوصول أي من أبنائها لأى عتبة من هذه العتبات المعتادة والمتكررة لدينا.
فلو أجرينا إحصاءً بسيطًا لنسبة تمثيل مصر في جوائز الثقافة والأدب، على مدار السنوات الخمس الأخيرة، لوجدنا أننا بخير وحاضرون، حتى لو لم نكن بخير على النحو الذي نحلم به.
