«خطر النيران يهدد إرث تسعين عاماً»

«خطر النيران يهدد إرث تسعين عاماً»

من فيلم “وداد” أول إنتاجات ستوديو مصر السينمائية في عام 1936 (Getty)

بدأت السلطات المصرية بحصر آثار التدمير في موقع ستوديو مصر، الذي تعرض لحريق أدى إلى تدمير أجزاء كبيرة من مكوناته، حيث اندلعت النيران للمرة الثانية خلال عقدين، كلفت النيابة العامة خبراء المعمل الجنائي بإجراء تحليل فني حول أسباب الحريق في الاستوديو الشهير، وسط مخاوف من تكرار الكارثة التي حدثت في ستوديو الأهرام القريب، والتي أدت إلى تدميره بالكامل ومحو آثار فنية كبيرة. أنشأ الاقتصادي المصري طلعت حرب ستوديو مصر قبل 90 عاماً، ليصبح واحداً من أهم صروح السينما في البلاد، حيث لعبت المؤسسة دوراً محورياً في تطوير الصناعة، وتغيير شكلها العشوائي الذي كان يعاني منه السينمائيون قبل ذلك. كان طلعت حرب مؤمناً بأهمية السينما ودورها، لذا أثبت أن بإمكان الفرد أن يؤثر في تاريخ بلاده، وهو ما تحقق من خلال مشروعه. جاءت فكرة إنشاء ستوديو مصر خلال فترة وجود طلعت حرب في ألمانيا وفرنسا، حيث لفت نظره النظام الذي تعمل به الاستوديوهات هناك، بفضل خبرات العاملين وإدارة العملية الفنية باحترافية، مما دفعه لإرسال بعثات من القائمين على الفن في مصر لدراسة الإخراج والتصوير أكاديمياً، بهدف تطبيق تجاربهم لاحقاً في البلاد. كانت البداية مع المخرجين أحمد بدرخان وموريس كساب، حيث أرسلهما إلى باريس لدراسة الإخراج، بينما أرسل محمد عبد العظيم وحسن مراد إلى ألمانيا لدراسة فنون التصوير، وبعد اتمام دراستهم، تغيرت رؤيتهم تجاه الفن والسينما، وهو ما كان يبحث عنه طلعت حرب لإنشاء شركة مصر للتمثيل والسينما، التي عُرفت لاحقاً باسم ستوديو مصر. ساهم هذا الاستوديو في تغيير أوضاع صناع السينما في مصر، فبعد أن كانوا يعملون بشكل عشوائي، انتقلوا إلى مرحلة توقيع العقود التي منحتهم الاستقرار المهني، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل عمل العديد منهم داخل الاستوديو موظفين يشاركون في إنتاج وإخراج ومونتاج الأفلام، ما كان له أثر عميق عليهم، إذ ضمن لهم العمل بدلاً من البطالة، وقد ساهم الاستوديو في تشغيل أعداد كبيرة من العمالة، حيث لم يقتصر دوره على التصوير فقط، بل شمل أيضاً معامل لتحميض وطباعة الأفلام وتسجيل الصوت، بالإضافة إلى دار عرض خاصة.

أول إنتاجات ستوديو مصر

جاء أول إنتاج لـ”ستوديو مصر” من خلال الفيلم الغنائي الاستعراضي “وداد” الذي تم طرحه في عام 1936، حيث شهد مشاركة الفنانين محمود المليجي وأحمد علام وكوكا ومختار عثمان، وتولى إخراجه فريتز كرامب، وقد حقق الفيلم نجاحاً جماهيرياً ملحوظاً، واختير للمشاركة في مهرجان فينيسيا ليكون أول فيلم مصري يشارك في مهرجان دولي. توالت بعد ذلك إنتاجات ستوديو مصر، حيث واصل طلعت حرب الإنتاج برأس مال مصري خالص، من خلال عدد كبير من الأفلام الناجحة مثل “سلامة في خير” و”العزيمة” و”سي عمر” و”الحل الأخير” و”إلى الأبد” و”الحياة كفاح” و”أرض النيل” و”لحن الخلود”. لم يقتصر نشاط ستوديو مصر على إنتاج الأفلام الروائية الطويلة فقط، بل امتد أيضاً لإنتاج الأفلام التسجيلية القصيرة التي أُدرجت في مهرجانات دولية، كما لجأ كثير من صناع السينما لاستئجار بعض أماكن الاستوديو لتصوير مشاهد من أعمالهم. ومن بين تلك الأعمال، “ميرامار” لكمال الشيخ عام 1970، و”فجر الإسلام” عام 1971، و”حمام الملاطيلي” لصلاح أبو سيف عام 1973، و”المومياء” لشادي عبد السلام عام 1975. وفي التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، استمر ستوديو مصر في تصوير عدد من الأفلام المهمة مثل “البحر بيضحك ليه” لمحمد كامل القليوبي عام 1995، و”امرأة هزت عرش مصر” لنادر جلال في نفس العام، و”الناظر” لشريف عرفة عام 2000، بالإضافة إلى فيلمي “النعامة والطاووس” و”حريم كريم” لعلي إدريس، و”دم الغزال” لمحمد ياسين عام 2005.

دور ستوديو مصر في تطوير السينما

كان لهذه المؤسسة فضل كبير في بروز العديد من الفنانين والمخرجين، مثل أنور وجدي وعقيلة راتب اللذين عملا موظفين بجانب نشاطهما الفني، كما ساهمت في بزوغ نجم المخرج الراحل صلاح أبو سيف الذي بدأ مسيرته كمساعد للإخراج ومحرر في جريدته، ثم تولى رئاسة قسم المونتاج، ليصبح بعدها مخرجاً معروفاً، حيث افتُتحت أمامه أبواب الإخراج عام 1946 من خلال فيلمه الأول “دايماً في قلبي”، ثم توالت أعماله لتقديم أفلام مهمة مثل “شباب امرأة” و”الفتوة”، و”الأسطى حسن” و”الصقر”. كما ساعد ستوديو مصر في ظهور جيل جديد من المخرجين البارزين مثل عبد الفتاح حسن وإبراهيم عمارة وكامل التلمساني وأحمد كامل مرسي. في كتابه “قصة السينما” الصادر عام 1969، خصص سعد الدين توفيق فصلاً كاملاً بعنوان “ستوديو مصر… مدرسة” للحديث عن إسهامات هذه المؤسسة، حيث أوضح أن صناعة السينما قبل ظهور ستوديو مصر كانت تعتمد على منتجين أفراد بإمكانات محدودة، ومخرجين يعملون بنظام القطعة، مما كان يؤثر سلباً على الاستقرار المهني للعاملين. وأضاف أنه مع تأسيس شركة مصر للتمثيل والسينما (ستوديو مصر)، تغير المشهد كلياً، فأصبح الفنانون والفنيون موظفين بعقود رسمية، وضموا نخبة من المخرجين وكتاب السيناريو والمهندسين والمصورين، مما أتاح بيئة إبداعية متميزة، وظهر أثر هذا النظام في إنتاج أفلام ذات مستوى فني رفيع عُرفت لاحقاً بـ”مدرسة ستوديو مصر”.

تحديات أمام ستوديو مصر

على الرغم من الدور الكبير الذي لعبه ستوديو مصر في تطور السينما المصرية، واجه عدة صعوبات، أبرزها تأميمه عام 1961، حيث آلت ملكية بنك مصر، الذي أسسه طلعت حرب، وما يتبعه من مشاريع إلى الدولة وإدارة القطاع العام، بما في ذلك ستوديو مصر. تعرض الاستوديو على مدار تاريخه للحريق مرتين؛ الأولى في أغسطس/آب 2009، حيث شب الحريق في العديد من الديكورات والملابس والمعدات بسبب ماس كهربائي، والثانية كانت في 28 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حيث تعرضت ديكورات مسلسل “الكينج”، الذي يؤدي بطولته محمد عادل إمام ويخرجه شيرين عادل، لحريق هائل، ولم تُكشف حتى الآن الأسباب التي أدت إلى اندلاعه.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *