إقبال على استخدام المعاملات الإلكترونية (Getty)
يتعرض ملف التحول الرقمي في مصر لنقاشات حادة، حيث يتأرجح بين تطلعات رئاسية وإنجازات حكومية مصرح بها من جهة، وواقع بيروقراطي وصراعات مؤسسية من جهة أخرى، وفي خطاب حديث له بأكاديمية الشرطة، أعاد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي التأكيد على قناعاته السابقة، بأنه تولى البلاد وهي في حالة “مهلهلة”، أو كما قال في مناسبات سابقة “شبه دولة”.
في الخطاب نفسه، تحدث السيسي عن الفرص الكبيرة المتاحة لمن يملكون أدوات المعرفة التقنية، مشيرًا إلى أن “الرائد الرقمي”، الذي قد تكلف الدولة نحو مليون جنيه لتأهيله، يمكنه جني أكثر من ثلاثين ألف دولار شهريًا، ومن المؤكد أن هذا الإنجاز المرتقب يُعزى إلى البنية التقنية التي تم تأسيسها مؤخرًا، حيث أشار الرئيس إلى أنه لو كانت مصر قد بدأت في هذا المسار قبل ثلاثين عامًا، لكان وضعها مختلفًا اليوم. جدل “نقطة البداية”.
هذا الطرح أثار حفيظة المختصين بالقطاع، خاصة أولئك الذين ساهموا في الجهود التي تمت تحت مظلة الحكومات السابقة قبل ثورة 25 يناير 2011، مما دفع مراقبين لتفنيد الادعاء بأن مسار تقنية المعلومات بدأ قبل عشر سنوات فقط، واستندوا إلى أرقام تُظهر تراجعًا حادًا في هذا المجال خلال العقد الأخير، مما أدى إلى تراجع مصر إلى مراتب متأخرة، خاصة في مجال “التعهيد” (Outsourcing)، مما يتضح في نشاط مراكز الاتصال (Call Centers).
تزامن هذا الجدل مع انعقاد معرض ومؤتمر القاهرة الدولي للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات (Cairo ICT)، الحدث الذي يُعتبر الأبرز في هذا المجال، وأصبح المعرض منصة للدفاع والرد على تلك التصريحات، حيث أشار المراقبون إلى أن النظام الذي ينتقد تأخر مصر يساهم في هذا التأخر بعدم التنسيق حول الفعاليات لتحقيق أقصى استفادة، ورأى مشاركون في المؤتمر أن تجاهل هذا الحدث، الذي كان يمكن استثماره بشكل أفضل، يدل على إما انعدام التخطيط، أو وجود “تخطيط منظم” يهدف إلى إضعاف المعرض لصالح شركة إماراتية تخطط لتنظيم معرض مشابه للذكاء الاصطناعي قريبًا، مما يعني استمرار النهج نفسه الذي أدى إلى تأخر البلاد تقنيًا.
شروط التنمية التقنية
في تعليقه على تكرار الانتقادات الرسمية لتأخر البلاد تقنيًا، والمطالبة الرئاسية للشباب بامتلاك أدوات التكنولوجيا لتحقيق دخول مرتفعة، أكد الكاتب الصحافي المتخصص في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، جمال غيطاس، عبر صفحته على “فيسبوك”، أن تحقيق التنمية التقنية الحقيقية لإيجاد مليون شاب يتقاضى كل منهم 30 ألف دولار شهريًا يتطلب بيئة حرة ديمقراطية تُصان فيها الحقوق، ويُمارس فيها النقد والمحاسبة، وتزدهر فيها الابتكار بعيدًا عن القمع، مضيفًا: “لا إبداع تحت الديكتاتورية، ولا اقتصاد رقمي حقيقي في مناخ العبيد”.
كان غيطاس قد استبق ذلك بمنشور مُطوَّل يُفنِّد فيه الادعاء بأن مصر بدأت متأخرة في هذا المجال، مُشيرًا إلى بيانات مؤشر “كيرني” (Kearney) لصناعة التعهيد، موضحًا أن مصر لم تكن مُدرجة قبل 2007، ثم حققت مراكز متقدمة (المركز 16 حتى 2009، وقفزت للمركز 7 في 2011)، بينما تراجع ترتيب مصر للمراكز 13 و15 و17 خلال الفترة من 2014 إلى 2017، قبل أن يتحسن إلى المركز 9 في 2019 و8 في 2023، دون استعادة مستوى عام 2011، وهو ما يتناقض، وفق رأيه، مع تصريحات بأن الجهود لم تبدأ قبل 30 أو 40 عامًا.
في تلك الأثناء، تتكرر شكاوى المواطنين أثناء تعاملهم مع مؤسسات حكومية لا تزال تعتمد على المستندات الورقية، ولا تعترف بالمستندات الإلكترونية لإنهاء الأعمال واستخراج التراخيص والقرارات، في المقابل، يُدافع مؤيدون للسلطة عن رؤيتها، مؤكدين أن مصر حققت نجاحات كثيرة في مجال التحول الرقمي، وسجلت حضورًا لافتًا في التصنيفات الدولية، مما ساهم في خلق آلاف فرص العمل، وإزالة عدد كبير من العراقيل أمام جذب الاستثمارات الأجنبية، بما يتناسب مع مكانة مصر وسوقها الكبيرة، وفقًا للتقارير الرسمية ورؤية مصر 2030.
بحسب بيانات رسمية لوزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وصلت الصادرات الرقمية إلى نحو 6.2 مليارات دولار، مُسجلة ارتفاعًا بنسبة 54% عن سنوات سابقة، وفقًا لتقديرات حديثة.
طفرات لافتة
تباينت آراء الخبراء حول واقع التحول الرقمي، حيث يقول خبير تكنولوجيا المعلومات، روماني رزق الله، إن مصر حققت طفرات لافتة في الرقمنة، والتعهيد، والألياف الضوئية، والأقمار الصناعية، وتكثيف تدريب الكوادر، لكنه اعترف في المقابل باستمرار اعتماد قطاع واسع من مؤسسات الدولة على المستندات الورقية، خاصة في المالية والجمارك والضرائب، وتحفظ بعض الوزارات على نظام “الشباك الواحد”، خشية تقليص صلاحياتها، وهي مشكلات تحتاج لإصلاح إداري.
ورأى رزق الله في حديثه لـ”العربي الجديد” أن هذه المشكلات لا تنفي الطفرات التي تحققت وساهمت في زيادة الصادرات، وتطوير قطاعات كالسياحة، لكن مصر تأخرت في الالتحاق بهذا المجال مقارنة بدول خليجية تحولت إلى مقار لشركات التكنولوجيا العالمية، وأكد خبير تكنولوجيا المعلومات والأمن السيبراني، تامر جمعة، تحقق طفرة عبر منصة مصر الرقمية، التي جذبت ملايين المصريين، وساهمت في تسريع دُولاب العمل الحكومي.
ونبه جمعة إلى أن ذلك انعكس إيجابيًا على قدرة مصر على توطين التكنولوجيا، وجذب كبرى الشركات، موضحًا في حديثه لـ”العربي الجديد” أن الاستفادة القصوى مما تحقق تتطلب قرارًا قومياً بحوكمة شاملة لمؤسسات الدولة، وإلزامها بالاعتراف بالمستندات الرقمية كمصدر وحيد معتمد للبيانات، بدلاً من الاعتماد على المستندات الورقية، وأوضح خبير التحول الرقمي، محمد نجم، أن هناك معوقات عدة، منها نقص البنية التحتية، وارتفاع التكاليف المالية، ونقص الكوادر المؤهلة، ومقاومة الموظفين البيروقراطيين، وضعف تبادل المعلومات بين الوزارات.
وأشار إلى أن عدم توسيع نطاق التحول الرقمي ساهم في تراجع تصنيف مصر في مجال الحكومة الرقمية عربياً وأفريقياً، مطالبًا في حديثه لـ”العربي الجديد” بزيادة عدد المتخصصين في التعهيد لتجاوز نصف مليون متخصص، للوصول بصادرات الصناعة إلى 10 مليارات دولار، كما انتقد بشدة انخفاض عدد مشتركي الإنترنت المنزلي (الذي قدَّره بأقل من 15 مليون مشترك، من إجمالي السكان البالغ نحو 110 ملايين)، وارتفاع تكلفته، ونقص سرعته عن المعدلات العالمية.
