خاض عمار بن ياسر مع النبى، صلى الله عليه وسلم، المشاهد كلها، وكان صلى الله عليه وسلم يدفع إليه راية المهاجرين فى بعض الأحيان، مثلما حدث فى غزوة بنى المصطلق، يقول «ابن كثير» إن النبى دفع براية المهاجرين فى هذه الغزوة إلى أبى بكر الصديق ويُقال إلى عمار بن ياسر، ودفع براية الأنصار إلى سعد بن عبادة، ويمكنك أن تستدل على مقام «عمار» الذى تساوى فى نظر النبى مع مقام أبى بكر، أول خليفة راشد، ومع سعد بن عبادة، زعيم الأنصار، والرجل الذى نافس بقوة على خلافة النبى فى مفاوضات سقيفة بنى ساعدة.
وثمة واقعة أخرى حكاها «ابن كثير» فى «البداية والنهاية» تدلل على مكانة عمار لدى النبى، وفيها يحكى أن خالد بن الوليد قال: كان بينى وبين عمار بن ياسر كلام فى شىء، فشكانى إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا خالد لا تؤذِ عمارًا فإنه من يبغض عمارًا يبغضه الله ومَن يعادِ عمارًا يعادِه الله.
لقد حكيت لك أن عمار بن ياسر عاش بقلب طيب، ومثّل قلبه بوصلته فى الحياة، تلك المضغة التى إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد، قلب «عمار» كان نموذجًا للصلاح والإيمان الذى يسكن كل خلية من خلايا عقله وجسده ونفسه التواقة إلى الله ورسوله. فى هذا السياق تستطيع أن تفهم ذلك الحديث الذى رواه ابن عباس عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويقول فيه: إن عمارًا ملىء بالإيمان من قرنه إلى قدمه. بهذه التركيبة عاش عمار إلى جوار النبى حتى عام ١١ هجرية، وعاش بعد وفاته صلى الله عليه وسلم سنين عددًا، عاصر خلالها خلافة أبى بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم على. وقد أبلى عمار بلاء حسنًا فى حروب الردة، خصوصًا فى معركة اليمامة، فى عهد الخليفة أبى بكر الصديق، ودفع به عمر بن الخطاب إلى مقعد الولاية خلال فترة خلافته، وكان ذلك سنة ٢١ هجرية، وقضى «عمار» فى هذا الموقع عدة شهور، ثم عزله عمر عنه واستعمل أبا موسى الأشعرى. وسبب ذلك- كما يحكى «ابن الأثير» فى «الكامل فى التاريخ»- أن أهل الكوفة شكوه وقالوا له: إنه لا يحتمل ما هو فيه وإنه ليس بأمين، ونزا به أهل الكوفة. فدعاه عمر، فخرج معه وفدٌ يريد أنهم معه، فكانوا أشد عليه ممن تخلف عنه، وقالوا: إنه غير كافٍ وعالم بالسياسة ولا يدرى على ما استعملته. وكان منهم سعد بن مسعود الثقفى، عم المختار، وجرير بن عبدالله، فسعيا به، فعزله عمر. وقال عمر لعمار: أساءك العزل؟ قال: ما سرنى حين استعملت ولقد ساءنى حين عزلت. فقال له: قد علمت ما أنت بصاحب عمل ولكنى تأولت: «ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين».
أهل الكوفة كانوا مشهورين بالتمرد على ولاتهم، وقد افتروا على «عمار» حين اتهموه- وهو المشهور بالزهد- بأنه غير أمين، أو ربما قصدوا أنه غير قادر على القيام بأمانة حكمهم، وأنه غير قادر على القيام بما هو فيه، ووصفوه بأنه «غير كافٍ وغير عالم بالسياسة». وواقع الحال أن الرجل الذى تكون بوصلته قلبه يصعب عليه أن يكون سياسيًا أو أن يجيد ألاعيب الساسة والسياسة، فقد كان «عمار» بطبيعته صريحًا فى التعبير عما يؤمن أو يقتنع به ويجهر برأيه فى وجه الجميع، وقد كان عمر بن الخطاب يعرف تركيبة «عمار» جيدًا، وقد صارحه بذلك وقال له إنه كان يدرك أنه ليس بالرجل المحب للمناصب، أو من الذين يجيدون فى مواقع السلطة، وأن كل ما فعله هو الرغبة فى ترجمة التحول الذى بشّر به القرآن الكريم المستضعفين بجعلهم أئمة وولاة.
ألعاب الولاية والسياسة لم تكن تلزم مؤمنًا بحجم وبتركيبة عمار بن ياسر، الرجل الذى وصفه خالد بن سمير- كما ذكر صاحب كتاب «صفة الصفوة»- بأنه كان طويل الصمت، طويل الحزن والكآبة، وكان عامة كلامه عائذًا بالله تعالى من الفتنة. هذه الكلمات تشرح لك الحالة التى عاشها عمار بن ياسر منذ وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، عام ١١ هجرية، وحتى استشهاده فى معركة صفين سنة ٣٧ هجرية. طيلة الأعوام الـ٢٦ كانت ثمة فكرة أساسية تسيطر على عقل وتفكير عمار، هى فكرة الفتنة التى ستقع بين فئتين، وأنه سيلقى مصرعه على يد الفئة الباغية، وكلما راودته الفكرة غلبه الحزن والكآبة وهو يتخيل حال الأمة فى تلك اللحظة المقبلة.
حالة الصمت الطويل التى كان يغرق فيها «عمار» مثّلت لحظات استدعاء لذلك المشهد الخالد فى حياته، حين كان يحمل الطوب اللبن على ظهره وهو يسمع النبى يهتف: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، اللهم ارحم الأنصار والمهاجرة»، فيدخل عليه وقد أثقلوه باللبن فيقول: يا رسول الله قتلونى يحملون علىّ ما لا يحملون، فكان النبى ينفض التراب عن رأسه بيده الشريفة ويقول: ويح ابن سمية.. ليسوا بالذين يقتلونك إنما تقتلك الفئة الباغية.
لقد عاش «عمار» بعد وفاة النبى منشغلًا باللحظة الآتية بعد ما يزيد عن ربع قرن من الزمان، اللحظة التى سيلقى فيها الأحبة محمدًا وصحبه.
0 تعليق