لم يكن الطفل ياسين يعلم أن خطواته الصغيرة نحو المدرسة ذات صباح ستكون بداية لكابوس لن ينتهي بسهولة، ففي المكان الذي كان يُفترض أن يكون الأكثر أمانًا له، تعرّض لاعتداء جنسي داخل أسوار مدرسته الخاصة في دمنهور، وبينما بدأت العدالة تأخذ مجراها، لم يكن السؤال الأهم فقط: من ارتكب الجريمة؟ بل: ما الذي يشعر به طفل في السادسة من عمره بعد أن تم انتهاك براءته؟ وكيف يتعافى طفل من صدمة كتلك؟.
التحرش الجنسي بالأطفال ليس جريمة لحظية تنتهي بانتهاء الفعل، بل هو شرخ داخلي، وجرح نفسي قد لا يُرى، لكنه قد يستمر مدى الحياة.
الطفل بعد الحادثة: ماذا يحدث داخل أعماقه؟
يتفق علماء النفس على أن الأطفال الذين يتعرضون للتحرش الجنسي يعيشون صدمة نفسية معقدة، تتجاوز بكثير أعمارهم الصغيرة، فالعنف الجنسي لا يمس الجسد فقط، بل يهدم الثقة، ويفكك الشعور بالأمان، ويزرع في القلب خوفًا لا يُمحى بسهولة.
حالة ياسين، تؤكد بعضًا مما يظهر على الأطفال عقب تعرضهم لعمليات التحرش بهم حيث أظهر الطفل أعراضًا نفسية واضحة بعد الحادثة مثل نوبات بكاء دون سبب واضح، خوف من النوم، ورفض العودة إلى المدرسة، وهي مؤشرات شائعة عند الأطفال ضحايا الاعتداءات الجنسية.
يقول الدكتور هشام مجدي أخصائي العلاج النفسي للأطفال تعليقًا على ذلك: “الطفل لا يفهم ما حدث له بشكل كامل، لكنه يشعر بأن شيئًا حدث، ويبدأ في الشك حتى في أقرب الناس إليه. تتشوه صورة العالم في ذهنه، وتختلط عليه مفاهيم الثقة والخوف والذنب”.
وتعود تفاصيل قضية الطفل ياسين التي قلبت الرأي العام، إلى ما يزيد عن عام مضى، عندما تعرض الطفل "ياسين. م. ع"، البالغ من العمر 6 سنوات، لاعتداء جنسي داخل مدرسة خاصة للغات في مدينة دمنهور بمحافظة البحيرة، وأشارت التحقيقات إلى أن المتهم في الواقعة، ويدعى "ص. ك"، كان يعمل مراقبًا ماليًا تابعًا لمطرانية البحيرة، ولم يكن من ضمن الهيئة التدريسية أو الإدارية للمدرسة، بل كانت مهامه تقتصر على مراجعة الحسابات فقط.
وعلى الرغم من حفظ القضية مرتين لعدم كفاية الأدلة، فإن أسرة الطفل لجأت إلى التظلم أمام النائب العام، ما أدى إلى إعادة فتح التحقيقات، وذلك بعد أن صارح الطفل أسرته بشخصية المتهم، قائلا لهم إنه شخص مسن يعمل في المدرسة اعتاد اغتصابه معبرًا عن ذلك بأنه “يؤلمه”، وهو ما تأكد من خلال تقرير الطب الشرعي الذي كشف أن الطفل قد تعرض بالفعل لهتك للعرض.
الأسرة أيضا تتألم
الصدمة لا تقتصر على الطفل وحده حسبما يوضح الدكتور هشام قائلًا إنها تمتد إلى أسرته، لا سيما الأم التي غالبًا ما تشعر بتأنيب ضمير مرير، وكأنها فشلت في حماية طفلها، لافتًا إلى أن هذا الألم النفسي للأسرة قد يؤدي أيضًا إلى اضطرابات داخل البيت، وشعور بالعار أو الخوف من نظرة المجتمع، خاصة إذا لم يتم التعامل مع الأمر بشفافية وتعاطف.
عواقب طويلة الأمد
وأشارت العديد من الدراسات إلى أن الأطفال الذين يتعرضون للتحرش الجنسي أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب، واضطرابات ما بعد الصدمة، والعزلة الاجتماعية، وحتى الإدمان أو السلوك العدواني في مراحل لاحقة من العمر.
ويتابع مجدي بقوله “إذا لم يُقدَّم للطفل الدعم النفسي المناسب في الوقت المناسب، فقد يتحول الألم إلى غضب داخلي، أو إلى نظرة مشوهة للذات والجسد والعالم من حوله".
المدارس ليست مجرد مبانٍ تعليمية
يضيف الخبير النفسي، أن حادثة الطفل ياسين تسلط الضوء على غياب الحماية النفسية في الكثير من المدارس، فبينما تهتم بعض المؤسسات بالمناهج الدراسية، تُهمل تمامًا بناء بيئة آمنة نفسيًا للأطفال، لافتا إلى أن هذه الواقعة تؤكد كذلك أن هناك حاجة ملحة لتدريب الكوادر التعليمية على التعرف على علامات الصدمة النفسية، والاستجابة السريعة لأي إشارات خطر"الطفل يجب أن يشعر أنه إذا تألم، هناك من يسمعه، إذا خاف، هناك من يحميه".
ما الذي يمكن فعله؟
يؤكد استشاري الأمراض النفسية، أنه في مثل هذه الحالات يجب التدخل النفسي المبكر إذ أنه من الضروري إخضاع الأطفال الضحايا للعلاج النفسي فورًا، مع تقديم الدعم للأسرة كاملة، كما يجب بشكل عام التوعية في المدارس، وتعليم الأطفال مفهوم “الخصوصية الجسدية” وحدود التعامل مع الآخرين.
ولفت إلى أنه يجب كذلك مراقبة من يدخل المؤسسات التعليمية إذ أنه لا بد من مراجعة سجلات العاملين بدقة، خاصة من ليس لهم علاقة مباشرة بالطلاب، كما أشار هشام إلى ضرورة كسر الصمت المجتمعي بمعنى أنه يجب التحدث عن قضايا التحرش لا يجب أن يكون وصمة، بل وسيلة لردع الجناة وإنقاذ الضحايا.
0 تعليق