"نسور الحضارة" تُحلق.. كيف يمكننا قراءة دلالات أول تدريب عسكري جوي بين مصر والصين؟

0 تعليق ارسل طباعة

في ظلال صحراء مصر الشاسعة، وعلى أرض شهدت ميلاد أولى الحضارات الإنسانية، أعلنت مصر عن انطلاق فعاليات التدريب الجوي المشترك بين القوات المسلحة المصرية والصينية تحت اسم "نسور الحضارة – 2025". هذه المناورة ليست مجرد استعراض للقوة أو تبادل للتقنيات، بل هي رسالة سياسية واستراتيجية يرسلها عملاقا الشرق الأوسط وآسيا إلى العالم: لا مساس بسيادتنا، ولا أغلال للاستعمار الجديد.
 
قبل عقودٍ من الآن، حذر القائد الصيني الراحل دنغ شياوبنغ خليفته قائلا: "عند عبور النهر لا بد من تحسّس الحصى في القعر". هذه العبارة اللّماحة لم تكن مجرد مَثل صينيّ، بل تجسيد لمنهج إصلاحي يقوم على التجربة الدقيقة والإبداع المنضبط. وقد ترجمت مصر والصين هذه الفكرة عمليًا في "نسور الحضارة"، حيث لا يقاد التدريب بعجلة متهوّرة، بل بمحاضرات نظرية مُعمقة تمهد لطلعات جوية مشتركة، يلمس فيها الطيارون أحجار الطريق قبل انطلاقهم في سماء لا تعرف التهاون.

حينما أسهب الفيلسوف والمؤرخ الأميركي ويل دورانت في كتابه "دروس التاريخ" متسائلًا عمّا إذا كان الإنسان قادرا على استخلاص أنماط تاريخية تنير له دروب المستقبل. ولئن بدا التاريخ أحيانا تكرارا مُرهقا للأخطاء، فإنه يشكل في الوقت ذاته مخزونا لا يملّ منه المُحلل العسكري الباحث عن الدروس المستمرار في شفرات الأزمات. ومن هنا يأتي تطبيق الدرس الأول: احترام الظروف؛ فظروف مصر الجغرافية والسياسية، وقربها من مسرح العمليات في الشرق الأوسط، تجعل من هذه المناورة استثمارا مضاعفا للموقع الاستراتيجي.

أما الدرس الثاني الذي حدّده الكاتب الأميركي جوزيف ستيب بحق، فهو "الظروف واللامتوقع". وفي سماء الصحراء، قد تتغير المعادلات في لحظة: نسيم الصحراء الحار يهبط سريعًا إلى الوديان، أو قد يتعطّل نظام إلكتروني عن بُعد، ما يتطلب قدرة تفكيرٍ سريع وتكيّف فوري. لذا، صُممت سيناريوهات "نسور الحضارة" بشكل اعتمد على أحدث أساليب القتال.

 
بالتأكيد، لا يمكن أن نقرأ هذه المناورة بمعزل عن سياقها الجيوسياسي. فعبارة "لا يمكن أن يوقف غطرسة قوة عظمى إلا قوة عظمى مثلها" لا تبدو هنا شعاراتٍ جوفاء، بل حقيقةٌ مُجددة على أرض الواقع. الاستعمار الجديد اليوم لا يكتفي بالاحتلال العسكري المباشر، بل يسعى إلى السيطرة الاقتصادية وتدمير الهوية الوطنية. وفي المقابل، ترسل مصر والصين بإعلانهما هذه الشراكة رسالة مفادها: "سنفتح طرقا لكسر حاجز السيطرة، ونبني جسورا للتعاون بعيدًا عن الوصاية".

شارك في المناورة عدد من الطائرات المقاتلة متعددة المهام من طرازات مختلفة من كلا الجانبين، وقد جرى تدريب مشترك على أعمال التخطيط وإدارة عمليات القتال، حيث جلس كلا الطرفين داخل قاعة واحدة، يتشاركون الخرائط الرقمية ونماذج البيانات، ويتبادلون أساليب استخدام أنظمة الاستطلاع والتوجيه. هذه الخطوة تُظهر مدى الانفتاح على نقل الخبرات، ومدى الثقة المتبادلة في الجوانب المهمة من البنية التحتية الدفاعية.

يقول المدون العسكري مينا عادل لـ"الدستور" أن إرسال سلاح الجو الصيني أحد أبرز اسرابة القتالية المرموقة التي دائما يحرص على مشاركتها في التدريبات الجوية خارج الصين وتستخدم عادة عدة انواع من المقاتلات متعددة المهام وهو أمر ليس بغريب ان تأتي للتدرب مع سلاح الجو المصري أحد اقوي أسلحة الجو في العالم مع اسرابة التي تجمع ما بين المقاتلات المتطورة الشرقية والغربية المنشأ ما يجعل لطيارينة خبرة قتالية فريدة لخلق بيئة تدريب مثالية لكافة الأطقم والطائرات الشرقية والغربية وأصبح في السنين الأخيرة هو وجهة لعدد من اسلحة الجو العالمية لرفع الكفالة القتالية لطواقمها.

لا يقتصر الدافع من "نسور الحضارة" على تعزيز القدرات التكتيكية فحسب، بل يتعداه إلى بناء إطار استراتيجي طويل الأمد. مصر، التي كانت تقليديا محاور تعاون مع الغرب، تفتح اليوم بوابة واسعة للتعاون مع الشريك الصيني، الذي يعد أكبر من يحمل المشروع البديل في العلاقات الدولية المعاصرة. وفي هذا التموقع، تبعث القاهرة برسالة إلى كل القوى الإقليمية والدولية: إن لكم علينا حق التوازن، وإن خياراتنا لا تقف عند طيف ضيق من الشركاء.
 
قد يظن البعض أن "نسور الحضارة" مجرد تدريب عسكري تقليدي، لكن المراقبين العارفين ببواطن الأمور يلمحون إلى بعد أعمق: هو بناء شبكة أمان استراتيجي لا تعتمد على لاعب واحد. ففي السنوات المقبلة، قد يمتد التعاون نقل التصنيع العسكري المشترك. وقد لا يُخفى على المتابعين تزامن المناورة مع قلق متزايد في دوائر القرار الغربية من تبلور ثقل قاري يضمّ بين ضلوعه أعظم حضارتين عرفتهما البشرية.


لا يمكن إدراك مدى عمق الشراكة "المصرية–الصينية" بمعزل عن تاريخها الممتد منذ منتصف القرن العشرين، فمنذ أن اعترفت مصر بجمهورية الصين الشعبية عام 1949 وأقامت معها علاقات دبلوماسية رسمية في 1956، تنامت هذه الروابط عبر مراحل متتابعة من التعاون الاقتصادي والثقافي—من بناء السد العالي في الستينيات إلى توقيع اتفاقيات للبنى التحتية والطاقة في العصر الحديث. ولم تقتصر المصالح المشتركة على المنح والخبرات التقنية، بل تعدتها إلى دعم القاهرة لعضوية بكين في الأمم المتحدة وتبني مبدأ "صين واحدة"، مقابل مساندة بكين لمواقف مصر الحيوية، بدءًا من تأييد تأميم قناة السويس وإدانة العدوان الثلاثي عام 1956، مرورا بتبادل الدعم في جهود مكافحة الإرهاب، ووصولا إلى تأييد خيارات الشعب المصري خلال ثورتي 25 يناير و30 يونيو، مع رفضها القاطع لأي تدخل خارجي في الشأن الداخلي المصري.


إذا كان عبور النهر بتحسس الحجارة منهجا صينيا داخليا، فإن مصر اتخذته اليوم منطلقا لاستعادة مكانتها التاريخية بين القوى. "نسور الحضارة" ليست سوى الحجر الأول في هذا الطريق، وستُعقبه تجارب أعمق وأوسع، لكن الأهم أنها حملت رسالةً واضحة: الأمة التي عاشت أقدم الحضارات على وجه الأرض لن تُسمح بإخضاعها للاقتصاد السياسي الجديد أو لمخخطات لتغيير الخرائط يتم حياكتها من تحت الستار، ولن تتزحزح عن قرارها السيادي.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق